يعيش الناس اليوم في خضم العالم الإلكتروني وفي أمواجه العاتية، الذي حوى في جوفه الغث والسمين، والضار والنافع، ورغم ما قدمته التكنولوجيا من تيسير كثير من الوسائل، وكثير من الخدمات التي طورت حياة الناس تطوراً هائلاً، فإنها في الوقت ذاته كانت لها أبواب خلفية فاسدة، جرّت الإنسان إلى السوء والرذيلة، بل ظهرت عصابات تستغل ضعف الناس وجهلهم وقامت بابتزازهم مادياً أو جنسياً، وأضحى الابتزاز الإلكتروني من الظواهر السلبية التي بدأت تنتشر على نطاق واسع.
في الحقيقة، هناك أسباب كثيرة للابتزاز الإلكتروني، كما أن هناك وسائل للحماية؛ ومن أهمها الوازع الديني والتوعية التقنية التي يجب أن يعرفها من يكثر التواصل، ويمكن مراجعتها عند المتخصصين.
أما من الناحية الشرعية، فالابتزاز الإلكتروني حرام شرعاً، بل هو من كبائر الذنوب المعاصرة، وإثمه أكبر من إثم ممارسة الأفعال التي يتصيدها الجاني وتكون سبباً للابتزاز الإلكتروني.
وحتى يتأكد أن الابتزاز الإلكتروني كبيرة من الكبائر؛ يجب العروج إلى تعاريف العلماء لـ”الكبيرة”، وقد تعددت فيها التعاريف، لكن يجمعها عدد من العناصر، من أهمها: أن الكبيرة جاء بها وعيد من الشرع، بتوعد بالنار أو اللعن، أو ورد فيها حد من حدود الله، أو هي كل ذنب شدد الشرع بالعقاب عليه، أو عظم ضرره على الناس والمجتمع، أو ورد في الشرع تغليظ ونكير عليه، أو ما كان من الفسق والفجور، أو كان مما يغضب الله من فعله، ومن ذلك: ما كان ضرره بالغاً متعدياً؛ مما يتعلق بالاعتداء على دين الإنسان، أو نفسه، أو عرضه، أو ماله.
وعلى هذا، فإن الابتزاز الإلكتروني من المحرمات العظام والكبائر الجسام، وهو أذية للمسلمين، وأذية المسلمين حرام شرعاً باتفاق، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ (الأحزاب: 58).
وأدلة التحريم على الابتزاز الإلكتروني من الكتاب والسُّنة وأقوال العلماء كثيرة، من ذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النور: 19)، فحرم الله تعالى حب شيوع الفاحشة، فكيف بمن يشيعها؟ وقد توعد الله تعالى من يشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وليس الآخرة فقط، وهذا يعني أن من يقومون بالابتزاز الإلكتروني عامة والابتزاز الجنسي خاصة لهم عقاب من الله يرونه في الدنيا قبل الآخرة.
وشدد النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد على من يشيع فاحشة الآخرين، ففي الحديث: “أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة هو منها بريء يشينه بها في الدنيا؛ كان حقاً على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال”.
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة الابتزاز الإلكتروني في الدنيا قبل الآخرة، كما أخرج البخاري ومسلم في حديث: “من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به”، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه”، والابتزاز الإلكتروني يشمل كل هذه الأنواع خاصة المال والعرض، وربما تسبب في قتل الإنسان أو انتحاره؛ بل شدد النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة مال الإنسان وعرضه ونفسه.
ومن أجل التشديد في تحريم إشاعة الفاحشة –وهي أهم صور الابتزاز الإلكتروني- كان الوزر لقائل الفاحشة وناشرها سواء، كما ورد في الأدب المفرد للبخاري، عن علي رضي الله عنه قال: “القائل للفاحشة، الذي يشيع بها في الإثم سواء”، بل شدد فقهاء الإسلام في النهي عن إشاعة الفاحشة ولو كان ناشرها صادقاً غير كاذب؛ فعن عطاء رحمه الله قال: “من أشاع الفاحشة فعليه النكال، وإن كان صادقاً”.
وجعل الله تعالى نشر العلاقات الخاصة بين الزوجين حراماً، وإن كانت العلاقة في أصلها بين الزوجين حلالاً، لكن يحرم نشرها، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة؛ الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها”؛ فكيف بنشر العلاقات الجنسية المحرمة؟!
كما أن الابتزاز بأخذ الأموال هو من أكل أموال الناس بالباطل، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ (البقرة: 188)، كما جاء الوعيد في أكل أموال الناس من خلال الابتزاز الإلكتروني وغيره في السُّنة، كما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى في حَجة الوداع: “إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحُرْمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت”، قلنا: نعم، قال: “اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب” (متفق عليه).
المواجهة فقهياً
الواجب شرعاً مواجهة الابتزاز الإلكتروني وعدم رضوخ الضحية للجاني سواء بدفع المال أم الاستجابة الجنسية له، والاستجابة لهذا الابتزاز حرام شرعاً؛ لأنها من جهة الجنس ممارسة حرام، وإعانة على الحرام، ومن جهة المال دفع مال في غير وجه حق، كما أن عدم الاستجابة سبيل للتقليل من هذا الابتزاز الإلكتروني، كما يجب تبليغ السلطات عن مثل هؤلاء؛ حتى يمنع استمرار الابتزاز؛ وفي الحديث: “لا ضرر ولا ضرار”.
كما أن من الواجب شرعاً ألا يوقع المرء نفسه فيما يجلب عليه الابتزاز الإلكتروني، وأن يحمي دينه وماله وعرضه؛ للآيات والأحاديث الواردة في ذلك.
والواجب على الدولة والقضاء –كما هو حاصل في كثير من الدول- عقوبة هؤلاء الذين يثبت في حقهم الابتزاز الشرعي بما يردعهم، وهو خاضع ضمن العقوبات التعزيرية التي ترجع إلى تقدير القاضي، بما يحفظ أعراض الناس وأموالهم، كما يحفظ أمن المجتمع؛ فإن ساحات الإنترنت الواسعة اليوم هي أحد المجتمعات التي نعيشها، وليست كما يقال “واقع افتراضي”، بل هي أحد وجوه الواقع الذي يعيشه الناس، ويمثل مجتمعات متعددة، وليس واقعاً خيالياً، وفي سن القوانين الرادعة لمن يبتز الناس إلكترونياً إقامة لحدود الله، وتحقيق لمقاصد الشريعة وحفظ لدين الناس ودنياهم.