أصدرت منظمة «أوكسفام» الدولية، مؤخراً، تقريراً تحت عنوان «البقاء للأغنى» (Survival of the Richest)، عن ضرورة فرض ضرائب على أصحاب الثراء الفاحش لمحاربة اللامساواة؛ فهل زيادة الضرائب هي الحل؟ أم أن الأمر يحتاج إلى شعور إنساني بالتكافل والتراحم، وعمل نابع من التقوى والإيمان، ووسائل ناجعة لعلاج مشكلة الفقر؟ وهذا ما فعله الإسلام من قبل، ويستطيع فعله الآن، إذا أتيح له المجال.
يعيش العالم وقتاً غير مسبوق من الأزمات المتعددة؛ فيعاني مئات الملايين من الجوع، ويواجه مئات الملايين ارتفاعاً جنونياً في تكلفة السلع الأساسية وتدفئة منازلهم، وأدى الغزو الخارجي والديون الخارجية، والاستبداد الداخلي والحروب الأهلية، وأزمات المهاجرين واللاجئين، إلى فقر من صنع البشر يهز كيانهم، بالإضافة إلى الجفاف والأعاصير والفيضانات، ولا يزال الملايين يعانون من التأثير المستمر لجائحة «كورونا»، وأصبح الأغنياء أكثر ثراء بشكل هائل، وبلغت أرباح الشركات مستويات قياسية.
زادت شركات الغذاء والطاقة أرباحها بأكثر من الضعف خلال عام 2022م، ودفعت 257 مليار دولار للمساهمين الأثرياء، في حين يبيت أكثر من 800 مليون شخص جائعين، وتأتي 4 سنتات فقط من كل دولار من الضرائب على الثروة، ويعيش نصف أصحاب المليارات في العالم في بلدان لا تفرض ضريبة ميراث.
وجاء في دراسة «أوكسفام» أن الارتفاع المهول في تكلفة السلع الأساسية زاد من حجم ثروات أصحاب المليارات المستحوذين على قطاعي الغذاء والطاقة بمقدار مليار دولار أمريكي كل يومين، ونحا التقرير باللائمة على فشل حكومات العالم في زيادة الضرائب على ثروات الأثرياء واستمرارها في بيع المرافق العامة لشركات القطاع الخاص، كما أن الجائحة ساعدت أصحاب المليارات على تضخيم حجم ثرواتهم؛ فعندما ضخت البنوك المركزية تريليونات الدولارات في الأسواق المالية لإنقاذ الاقتصاد لم تذهب تلك المبالغ إلى دعم الطبقات الكادحة، بل إلى حشو جيوب المليارديرات.
وبخصوص منطقة الشرق الأوسط، سجل تقرير «أوكسفام» ارتفاعاً في حجم ثروة أغنى الأثرياء بحوالي 10 مليارات دولار منذ بدء تفشي «كورونا»، وبلغت نسب اللامساواة مستويات غير مسبوقة لعدة أسباب، على رأسها السياسات الاقتصادية التي تعتمدها حكومات دول المنطقة وتستفيد منها النخبة الحاكمة والمقربة من دوائر السلطة، وهي سياسات كرست تفاوتاً اقتصادياً عميقاً بينها وباقي الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة(1).
إحصاءات صادمة
لقد حدث تفاوت خطير لتوزيع الثروة، واستحوذت نسبة 1% من أغنى أثرياء العالم خلال العامين الماضيين على ما يقرب من ضعف ما يمتلكه باقي سكان الأرض، واستحوذ أكثر أغنياء العالم ثراءً على حوالي ثلثي إجمالي الثروة الجديدة منذ عام 2020م وقيمتها نحو 42 تريليون دولار، أي ما يقرب من ضعف ما حصل عليه بقية سكان الأرض.
وفي مقابل ظهور ملياردير جديد كل 30 ساعة يسقط مليون شخص في براثن الفقر المدقع، وفي الوقت الذي يضاعف فيه أغنى رجال الأعمال ثرواتهم تنخفض قيمة الدخل لدى 99% من البشرية، ويمتلك أغنى 1% من البشر 46% من الثروة العالمية، في حين أن النصف الأفقر من العالم لا يمتلك سوى 0.75% فقط، ويمتلك 81 مليارديراً ثروة تفوق ما يملكه نصف البشر مجتمعين.
وقالت مجلة «Forbes»: إنه في عام 2022م بلغ عدد المليارديرات 2668 شخصاً، يمتلكون 12.7 تريليون دولار، من هؤلاء ألف ازدادوا غنى عن العام الماضي، وظهر 236 مليارديراً جديداً، وتبلغ ثروة أغنى 10 في العالم أكثر من 1.3 تريليون دولار(2).
يقول تقرير «أوكسفام»: إنه يمكن لضريبة تصل إلى 5% على أصحاب الملايين والمليارات في العالم أن توفر 1.7 تريليون دولار سنوياً، وهو ما يكفي لانتشال ملياري شخص من براثن الفقر، وضرب التقرير مثلاً واضحاً لما يدعو إليه، فإن «إيلون ماسك»، أثرى رجال العالم، يدفع معدل ضريبة حقيقي يزيد قليلاً على 3% فقط، أما المرأة التاجرة في سوق بشمال أوغندا تبيع الأرز والدقيق وفول الصويا، وتجني ربحاً 80 دولاراً شهرياً فتدفع ضريبة قدرها 40%!
وأوصى التقرير بفرض ضرائب «تضامنية» على الثروة مرة واحدة، وضرائب تصاعدية، وضرائب على الأرباح غير المتوقعة لوقف التربح من الأزمات، وفرض ضرائب على ثروة أغنى 1% من البشر بمعدلات عالية بما يكفي لخفض اللامساواة، وتمكين الإدارات العامة وإدارة الضرائب من تعقب ثروات أغنى الأشخاص والشركات، وإنهاء الاستيلاء السياسي على الضرائب.
لا أعتقد، من وجهة نظري، أن ذلك سيحدث؛ نظراً لأن الشركات الكبرى تعرف كيف تتلاعب وتتخلص وتتهرب من دفع الضرائب بطريقة قانونية أو غير قانونية، فلها أذرع طويلة وعلاقات كثيرة، بعضها مرتبط بالفساد الإداري أو الحكومي، فلا بد أن تخرج هذه الأموال عن طيب خاطر، ووازع ديني أو حتى روحي أو إنساني.
من ألوان التلاعب في الشركات متعددة الجنسيات أن يبيع مصنع في بلد مرتفع الضرائب منتجه إلى كيان شقيق في بلد منخفض الضرائب بأقل من سعر السوق، مما يقلل من الأرباح المسجلة للمصنع الأول، يقوم الكيان في الدولة منخفضة الضرائب ببيع المنتج بسعر أعلى من سعر السوق لزيادة الأرباح، ويمكن لشركة أيضاً بيع منتج غير ملموس، مثل التكنولوجيا أو الملكية الفكرية المرتبطة بشعار معين، إلى شركة تابعة في البلدان منخفضة الضرائب، تقوم الشركة الثانية بفرض رسوم على الشركات التابعة في جميع أنحاء العالم مقابل الحق في استخدام الأصل، فتزيد الأرباح أضعافاً مضاعفة(3).
علاج من الإسلام
لقد عالج الإسلام هذه القضية بعدة وسائل، منها:
الأولى: تتعلق بالفقير نفسه، وهي وجوب العمل، وعلى المجتمع والدولة معاونته بالمال والتدريب.
الثانية: تتعلق بالمجتمع الذي يقوم بكفالة الفقراء، واجباً أو استحباباً، عن طريق: نفقات الأقارب، ورعاية حقوق الجوار، وإيتاء الزكاة المفروضة إن لم تجبها الدولة، وأداء الحقوق الطارئة في المال مثل الكفارات والنذور، وإغاثة المضطر، وكفاية المحتاج، وصدقات التطوع المؤقتة أو الدائمة (الوقف الخيري).
الثالثة: تختص بالدولة (المسلمة) التي يجب عليها أن تقوم بكفاية كل ذي حاجة عن طريق الزكاة، والموارد الراتبة، مثل ما تغله أملاك الدولة من أراضٍ وعقارات، والموارد الإضافية من الضرائب المكملة التي تفرض على الأغنياء لتحقيق كفاية الفقراء، إذا لم تكف الزكاة والموارد الأخرى(4).
ويكفي هنا ذكر مثالين عن العمرين، كما في كتاب «الأموال»(5)، ليرى اللبيب الحل في ظل تقوى الله من الحاكم والمحكوم:
الأول: ورد أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند -إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم- حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم على عمر، فرده على ما كان عليه، فبعث إليه بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر، وقال: لم أبعثك جابياً ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس، فترد على فقرائهم، فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني، فلما كان العام الثاني بعث إليه بشطر الصدقة، فتراجعا بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه، فقال معاذ: ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئاً!
الثاني: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عبدالحميد بن عبدالرحمن، وهو بالعراق: أن «أخرج للناس أعطياتهم»، فكتب إليه عبدالحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن «انظر كل من أدان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه»، فكتب إليه: إني قد قضيت عنهم، وبقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن «انظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه»، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن «انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين».
______________________________________________________________
(1) البقاء للأغنى، تقرير منظمة «أوكسفام»، أوكسفورد بريطانيا، يناير 2023م.
(2) Forbes World’s Billionaires List 2022: The Top 200, 5 April 2022
(3) Some of the ways multinational companies reduce their tax bills, Peterson Institute for International Economics, 7 July 2021.
(4) مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، يوسف القرضاوي، القاهرة، مكتبة وهبة، 1977م، ص158-159.
(5) كتاب الأموال، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم، تحقيق خليل هراس، بيروت، دار الفكر، ص319 و710.