المعادن اللازمة للمرور إلى التحول الأخضر من الوقود الأحفوري يمكن أن تصبح «نسخة القرن الحادي والعشرين من سلاح النفط»، هكذا حذرت دراسة علمية قامت بها مجموعات بحثية بتكليف من وزارة الدفاع الكندية.
ومع أن هناك اتفاقاً واسع النطاق بين العلماء على ضرورة إجراء تخفيضات جذرية في استهلاك الوقود الأحفوري، لدرء تغير المناخ الكارثي، فإن تسابق الدول على تبني المزيد من التقنيات الكهربائية، وكفاح المستثمرين والحكومات للسيطرة على الوصول إلى سلع مثل النحاس والليثيوم والأتربة النادرة من المناطق النائية، يجعل من تلك الغاية مصدراً للصراع القادم.
يتخوف العديد من المراقبين من أن التحول الأخضر قد يكون له أصداء من التوتر والعنف اللذين يميزان السعي العالمي اللاهث نحو مصادر الطاقة، ومنها النفط وما حدث من حروب في سبيل السعي إلى السيطرة على منابعه.
وقالت الدراسة العلمية التي قامت بها مجموعات بحثية بتكليف من وزارة الدفاع الكندية: النمو الهائل للأجهزة الإلكترونية في العقد الماضي، إلى جانب التقدم السريع في التقنيات الخضراء مثل طاقة الرياح والمركبات الكهربائية، يؤدي إلى زيادة الطلب على العناصر الأرضية النادرة في عام 2020م، ويتم الوصول إليها بموجب تشريعات حرية المعلومات.
واعتبرت الدراسة أن الكيانات الاقتصادية الإقليمية مهمة أيضاً للأمن القومي؛ لأنها مكونات رئيسة في إنتاج مجموعة متنوعة من المكونات والتطبيقات المتعلقة بالدفاع.
ولذلك، تقرر الدراسة بعد بحث جهيد أن أي تعطيل لتوافر العناصر الأرضية النادرة يمكن أن يكون له آثار خطيرة على الاقتصاد والأمن القومي في جميع أنحاء العالم.
ما الأتربة النادرة؟
والأتربة الأرضية النادرة هي مجموعة من 17 سلعة، ومنها يتم استخلاص أهم عناصر التكنولوجيا الجديدة.
وتعرف تلك الأتربة بأسماء مثل النيوديميوم والسيريوم والإيتريوم، وهي مكونات أساسية للتقنيات المتقدمة، بما في ذلك المركبات الهجينة وأنظمة التوجيه بالليزر والشاشات المسطحة.
ولفتت الدراسة إلى أن الاتجاه العام للمنافسة من أجل السيطرة عليها، ينطبق أيضاً على المعادن الأخرى اللازمة لانتقال الطاقة، مثل النحاس والليثيوم.
ولطالما استخدم النفط كسلاح جيوسياسي، فهل يمكن أن تغير الأتربة النادرة هذا الوضع لتصبح البديل له؟
تقول الدراسة: إن الصين أظهرت بالفعل استعدادها لاستخدام أرضياتها النادرة كسلاح سياسي، مستشهدة بتحرك بكين عام 2010م لوقف شحنات الطاقة المتجددة إلى اليابان بعد احتجاز الأخير لطاقم صيد صيني خلال نزاع على الحدود البحرية.
وأوضحت أن بكين تسيطر على حوالي 90% من إمدادات العالم من العناصر الأرضية النادرة، التي حذرت من أن معادن التكنولوجيا النظيفة يمكن أن تكون مثل سلاح النفط الذي استخدمته الدول العربية خلال عام 1973م، وذلك حينما أوقفت صادرات البترول إلى الولايات المتحدة رداً على دعم واشنطن للكيان الصهيوني.
ووفقاً لصحيفة كندية، فقد تم حجب ما يقرب من 100 صفحة من ملفات الدراسة، مما يؤكد حساسية المعلومات المحيطة بالوصول إلى هذه الموارد، حيث رفضت وزارة الدفاع الكندية إجراء مقابلة حول الموضوع.
لكن الصحيفة أكدت أنه وفي تعليقات عبر البريد الإلكتروني، أكد متحدث باسم الدراسة أنها لم تؤد إلى أي إجراءات مباشرة من الجيش، ومع ذلك، قال: «أبلغت أن المناقشات الوزارية الأوسع جارية».
وقال المتحدث: إن إدارة الدفاع الوطني تجري محادثات مع الولايات المتحدة بشأن القاعدة الصناعية الدفاعية المشتركة بين البلدين.
مضاعفة التوتر
لتغذية التحول الأخضر، يخشى علماء البيئة من أن الطلب على مناجم جديدة، غالباً في المناطق النائية والحساسة بيئياً، سيؤدي إلى التلوث وكذلك العنف بين المجتمعات والمستثمرين، بحيث يمكن أن تتصاعد هذه النزاعات المحلية جنباً إلى جنب مع الصراع الجيوسياسي بين البلدان والشركات حيث يتسابق سماسرة السلطة للسيطرة على الموارد ذات القيمة المتزايدة في كل مكان من الغابات المطيرة في أمريكا الجنوبية إلى أقصى شمال كندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وسيتطلب الانتقال العالمي إلى الطاقة النظيفة مزيداً من النحاس مثلاً، وهو متوفر بكثرة في منجم في هيرمان بولاية يوتا.
وقد وجدت الدراسة أن المنافسة الجيوسياسية على المعادن الرئيسة اللازمة لمستقبل منخفض الانبعاثات جارية بالفعل، حيث قال «دونالد كينجسبري»، الأستاذ المساعد في العلوم السياسية بجامعة تورنتو الذي يدرس التعدين في أمريكا اللاتينية، عن طفرة الطاقة المتجددة: إننا نشهد بالفعل المزيد من الصراعات على المستوى المحلي.
على سبيل المثال، أوضح «كينجسبري» أن التوترات تتصاعد فيما يسمى بمثلث الليثيوم الذي يمتد عبر حدود تشيلي وبوليفيا والأرجنتين، والصراع بين الحكومات الوطنية والمحلية حول من يجب أن يتحكم في إيرادات الموارد والقرارات المتعلقة بالمشاريع الجديدة.
وقال عن الطلب الجديد على المعادن المرتبط بتحول الطاقة: «إنه عامل توتر مضاعف»، مشيراً إلى أن ذلك يمهد الطريق لصراعات مستقبلية على الطريق.
ومن المتوقع أن يتضاعف الطلب على النحاس بحلول عام 2050م، كما توقع الرئيس التنفيذي لشركة تجارة السلع العملاقة «جلينكور» العام الماضي؛ مما يعني أن العالم سيحتاج إلى استخراج 60 مليون طن سنوياً.
ويتطلب إنتاج سيارة كهربائية واحدة أكثر من ضعف كمية النحاس التي تحتاجها السيارة التي تعمل بالغاز، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية (IEA) ومقرها باريس، حيث تحتاج السيارة التي تعمل بالطاقة النظيفة أيضاً إلى معادن غير مستخدمة في السيارات التقليدية، بما في ذلك الكوبالت والليثيوم والجرافيت.
ولهذا، فمن المتوقع أن يرتفع الطلب على الليثيوم أكثر من 40 ضعفاً بحلول عام 2040م، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية، مع زيادة الطلب على الجرافيت والكوبالت والنيكل بأكثر من 20 ضعفاً.
يقول «دانييل إيرل»، الرئيس التنفيذي لشركة «سولاريس ريسورسز»، وهي شركة تعدين كندية مدرجة: إن الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية يتطلب تحولاً عالمياً هائلاً حقاً، ويعني أن يؤدي هذا التحول إلى نظام عالمي كثيف النحاس للطاقة المتجددة، أنت تتحدث بشكل أساسي عن جهد لكهربة كل ما تستطيع.
تقول صناعة التعدين في بلد مثل الإكوادور الغني بتلك الثروات: إن هذه المشاريع ضرورية لمكافحة تغير المناخ، وخلق فرص عمل، وتحريك الإكوادور إلى ما هو أبعد من اعتمادها على استخراج النفط.
وتقرر أنه إذا لم تقم شركة مثل «سولاريس» في الإكوادور ببناء مشروع النحاس، كما يقولون، فقد يقوم شخص آخر بذلك.
ويؤكد الرئيس التنفيذي لشركة «سولاريس إيرل»، قائلاً: الصين هي اللاعب المهيمن في الموارد الطبيعية في الإكوادور، لافتاً إلى أن الشركات الصينية تأخذ 100% من مركزات النحاس من منجم ميرادور الواقع بالقرب من مشروع وارينتزا، وجميع إنتاج النفط في الإكوادور تقريباً.
ويوضح أن شركات التعدين الصينية قفزت على شركات التعدين الغربية، بصورة مذهلة، حتى إن البعض يتوقع أن تصير الصين هي المتحكم الرئيس في تلك المصادر خلال أقل من عقدين من الزمن.
وبالإضافة إلى وجودها المتنامي في أمريكا الجنوبية، تواصل الصين السيطرة على سوق الأرض النادرة، وهي رائدة في أبحاث وتطوير الأرض النادرة، حسبما ذكرت الدراسة الخاصة بوزارة الدفاع الكندية؛ مما دفع بعض المحللين إلى الاعتقاد بأن بكين قد تمنع مبيعات الأرض النادرة؛ وهو ما يجعلها تتحكم في العالم كله.
هل تفعلها تركيا؟
في تقرير نشرته «التايمز» البريطانية، عنونه مراسلها لشؤون الشرق الأوسط «ريتشارد سبنسر» بـ«تركيا تفتخر بإنهاء قبضة الصين على العناصر الأرضية النادرة لبطاريات السيارات الكهربائية»، أكد اكتشاف أنقرة لاحتياطي كبير من تلك الأتربة النادرة، يصل لأن يكون هو الاحتياطي الثاني عالمياً بعد الصين.
وتصديقاً لتقرير «التايمز»، يمكن تأمُّل إعلان وزارة الطاقة والموارد الطبيعية التركية، التي أكدت أن الاكتشاف الجديد يمكنه تزويد العالم بأسره من هذه الطاقة لمدة تزيد على 1000 عام!
وبلغة الأرقام، أكدت الوزارة التركية أن الاكتشاف يصل إلى 694 مليون طن من الرواسب، تحتوي على أتربة نادرة.
الاكتشاف التركي الجديد بهذا الحجم دفع هواة التشكيك والبحث في التفاصيل إلى الحديث عن أن الأرقام الرسمية التي ذكرتها وزارة الطاقة التركية تشير إلى كمية الخام الموجودة، وليس إلى كمية العناصر النادرة التي يتم استخراجها منه، وقالوا: إن الفرق كبير بين الاثنتين، بحسبان أن كمية العناصر المهمة التي سيتم استخراجها من تلك الكميات سوف تعتمد وبشكل أساسي على درجة نقاء هذه الكمية الخام، فربما تبين بعد ذلك أن تلك الكمية لا تصل إلى درجة النقاء المطلوبة لاستخراج تلك العناصر.
وكرد فعل على الإعلان التركي، بدأت وسائل إعلام صينية في الحديث عن الفوارق بين بكين وأنقرة، في تفاصيل قدرة كل منهما في الاستحواذ على سوق الطاقة المستقبلية.
صحيفة «غلوبال تايمز»، وهي الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، نقلت عن مصادر مطلعة في الصناعة: أن الميزة التكنولوجية والصناعية المتفوقة للصين في صناعة العناصر الأرضية النادرة سيتم الحفاظ عليها في المستقبل.
على أي حال، فإن الاكتشاف التركي سيجعل من أنقرة رقماً مهماً في معادلة الصراع حول مصادر الطاقة المستقبلية، في حين ستمثل لأوروبا منفذاً مهماً يجعلها تتنفس بعيداً عن الهيمنة الصينية المتوقعة في هذه السوق الشرسة، التي أضحت جميع الدول على استعداد لفعل أي شيء من أجل إيجاد موطئ قدم بها، تجنباً لحالة من الإذلال متوقعة لكل من يظل بعيداً عنها.
موقع العالم العربي
المهم وبعد هذا الاستعراض السريع، ربما يسأل سائل عن عالمنا العربي وموقعه من تلك الدراسات، وهذا المستقبل المليء بالصراعات على مصادر الطاقة النظيفة، وهو سؤال مشروع بحسبان الوسيط الذي تقدم فيه تلك المعلومات عربي ويخاطب جمهوراً عربياً.
وهنا نؤكد أننا بعيدون كل البعد عن مثل هذا التفكير الإستراتيجي الذي تُؤمِّن به الأمم والحضارات اليقظة مستقبلها، وتحاول من خلاله أن تصنع لنفسها مكاناً ومكانة في عالم أضحى كغابة كبيرة يأكل القوي فيها الضعيف.
نحن، للأسف، في موقع المفعول به دوماً، لكننا نحاول من خلال تلك الومضات التي نسلط الضوء عليها أن نسهم في إيقاظ العقول ونعذر إلى الله تعالى في تنبيه أمتنا، لعل الله ينير الدرب لمن يستطيع التأثير، وبالله وحده تُستدفع البلايا.