هناك وظيفة وجودية للإنسان، لا يزال صَدَاها يتردَّد في أرجاء الكون، إذْ تقدَّم الإعلان عن وجود صاحبها قبل خلقه لهذه الوظيفة الخالدة، عبر ذلك الحوار القدسي في الملأ الأعلى، وذلك الإعلام المسبق من الله تعالى لملائكته حول الغاية الوجودية للإنسان؛ فكانت هذه الأصالة في التصوُّر الإيماني عنه، إذْ نقَلَنا القرآن بعيون البصيرة لنرى بكل شفافية تلك القصة الأولى لحقيقة الإنسان ومقصدية وجوده في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)، ومع أنَّ المقصود الأول بالآية هو آدم عليه السلام، فإنَّها عامة في مطلق الإنسان، كما قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: «والظاهر أنه لم يُرِدْ آدم عَيْناً، إذ لو كان كذلك لَمَا حَسُن قول الملائكة: «أتجعل فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدِّماء»، فإنهم إنما أرادوا أنَّ مِن هذا الجنس مَن يفعل ذلك..»، قال الإمام القرطبي في تفسيره: «وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره..».
وخلاصة معنى الخلافة، هي: سياسة الدُّنيا بالدِّين، واستُنبِط من الآية وجوب بناء النظام السياسي والدستوري والقانوني للأمة، وعدم مقبولية الفراغ المؤسساتي لها، ثم قال القرطبي: «وهذه الآية أصلٌ في نَصْب إمامٍ وخليفةٍ يُسمع له ويُطاع، لتجتمع به الكلمة، وتَنْفُذَ به أحكامُ الخليفة، ولا خِلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة..»، وعقَّب الحافظ ابن كثير على ذلك بقوله: «.. إلى غير ذلك من الأمور المهمَّة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب».
فهي إذن المشيئة الإلهية التي أرادت أن تكون السيادة للإنسان في هذا الكون، فتُطلِق إرادته وقدرته في هذه الأرض، فكانت تسميته بحسب وظيفته، وهي: الخلافة ذات الحمولات السياسية، وهي دلالةٌ بالغة لعِظم المكانة وضخامة المهمة المُوكَلة إليه، وهو بيان إلهيٌّ عن هذه الوظيفة الملازمة له، وهي مسؤولية تسلَّم مقاليدها بلا منازع، فلا تزال في عُهدته إلى يوم الدِّين، إلا أنها اختيارية وليست قهرية، وهو مظهرٌ من مظاهر التكريم الإلهي للإنسان.
وقد تكرر هذا التذكير بهذه المهمة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ (الأنعام: 165)، للاعتقاد الجازم بأن هناك تناسقاً بين ما تدَّخره الأرض من طاقات وكنوز وهِبات كتسخير إلهي كلي، كما قال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ (البقرة: 29)، وبين ما يتميَّز به الإنسان من مَلَكات ومواهب وقدرات وقِوَى خفيَّة تحقِّق المشيئة الإلهية، إذ إنَّ الأصل في هذه الإرادة الإلهية في الاستخلاف هو تحقيق النظام في هذا الوجود، ليقع الانسجام بين القوانين التي تحكم الكون (السُّنن الكونية)، والقوانين التي تحكم الإنسان (الأحكام الشَّرعية والسُّنن النفسية والاجتماعية والتاريخية)، وألا تتحطَّم إرادة الإنسان على صخرة هذا الكون.
لقد هيَّأ الله تعالى هذه الأرض كبيئة فريدة دون سائر الكواكب والمجرَّات، لتكون مجالاً لممارسة وظيفة الخلافة، وهي المهمة الوجودية للإنسان في إمضاء أحكام الله تعالى (أمراً ونهياً)، وهو ما يتطلب سيادة الإنسان في الكون وبسط سلطانه فيه، وهو المعنى الذي يقتضي أنَّ هذه المهمة تستمد جوهرها وحقيقة أبعادها من هذه العلاقة الثنائية المقدَّسة بين الله والإنسان، ولا شكَّ أنَّ المعنى الأقرب للخلافة في هذه العلاقة هي علاقة القرب بين المستخلِف والمستخلَف، وصفة الثقة التي منحها له المستخلِف، والقدرة التي يتميَّز بها المستخلَف لأداء هذه المهمة كما يريدها الله تعالى منه.
فالإنسان الخليفة يجب أن يحصر همَّه في التألق في هذه المهمة، وكيفية تحقيق هذا القرب المقدَّس، وترقية هذه الذات وتنمية هذه القدرات حتى تبلغ درجة المقبولية للنجاح في هذه الوظيفة، وأنَّ هذا الجهد يجب أن يتَّجه قصداً إلى الله تعالى.
الوظيفة الوجودية
إنَّ التكامل في شخصية الإنسان للتأهُّل لهذه الوظيفة الوجودية يتجسَّد بمنهاج العبادة كصبغة إلهية ثابتة: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾ (البقرة: 138)، إذ إن العلاقة التعبدية بين الله والإنسان هي المقصد العقدي من خلقه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، وإنَّ المعنى الحقيقي والشامل للعبادة هي إسلام النَّفس لله تعالى إسلاماً كلِّياً في الأمر والنهي، ولا شك أنَّ هذا الارتقاء في علاقة القرب يكون بكل كينونة الإنسان جسداً وروحاً حتى يصل إلى “قمَّة الكون”، وتقوم هذه الوظيفة الوجودية على حقيقتين:
1- توافق التركيب الذاتي للإنسان مع هذه الوظيفة: فالخلق العجيب للإنسان جعل منه بشراً من طين، ووظيفة هذا الجزء الترابي، وهو وُسْع الطاقة المادية التي تجعله يباشِر الكون، ويتعامل مع الواقع، ويتفاعل مع الحياة بالسَّعي البشري والفعل الإنساني لصناعة النهضة والحضارة بتعميرها، كما قال تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61).
وهناك جزءٌ روحيٌّ علويٌّ مقدَّس، بشرف النِّسبة إلى الله تعالى، كما قال سبحانه للملائكة في معرض التشريف والتكريم: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (ص: 72)، ووظيفة هذا الجزء الرُّوحي اقتباس الأفق الإلهي بحُسْن التلقي والفهم والأخذ عن الله تعالى بواسطة الوحي (إدراكاً واستيعاباً وعملاً وفق أمْرِه ونهْيِه).
2- رِفعة التكليف: فالإنسان هو العنصر المتفرِّد في المخلوقية بتحمُّل أمانة التكليف، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ (الأحزاب: 72)، فهذه الخلائق الضخمة من السماوات والأرض والجبال تؤدي دورها الكوني أداء فطرياً، وتخضع لقانونها السُّنني خضوعاً قهرياً، فهي لا تتنعَّم بالحرِّية ولا تتميّز بالإرادة، ولا تسمو بمشاعر المحبة، مثل تميُّز الإنسان تميُّزاً نوعياً بها، إذْ إنَّ وظيفة هذا الاستخلاف في تحمُّل أعباء هذه الأمانة لا يكون إلا على أساس الحرية والإرادة والاختيار بين الأداء والترْك، بعد التبصُّر بحقيقة المسؤولية وما يترتب عنها من الجزاء والعقاب، كما قال تعالى عن النَّفس البشرية: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس).
إنَّ منهاج هذه الخلافة لا يقوم إلا على أساس تكامل الوحي (وهو كلام الخالق سبحانه) مع العقل (وهو قدرة الإنسان)، حتى تتكامل حقيقة خلقه مع استحقاق تشريعه، إذْ إنَّ مهمة الإنجاز الإنساني في الاستخلاف في الأرض قد أُوكِلت إلى العقل، فهو المخاطَب بالتكليف، ولا فاعلية للأساس النظري (الوحي) إنْ لم يتم تنزيله واستدعاؤه إلى واقع الإنسان، وهو ما يؤكد ضخامة وظيفة العقل في هذه الوظيفة السياسية الأساسية للإنسان في هذا الوجود.