الخطوة العسكرية التي أقدمت عليها قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، يوم السبت 15 أبريل 2023، فاجأت الكثيرين بسرعتها وغرابتها؛ إذ حاولت تلك القوات في صباح ذلك اليوم السيطرة على القيادة العامة للجيش واحتلال القصر الجمهوري والسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون تنفيذاً لانقلاب كامل على الدولة واستلام السلطة بالقوة، مع ما يتبع ذلك من إجراءات عسكرية وأمنية معروفة في مثل هذه الحالات.
وظلت الأسئلة تترا حائرة حول دوافع هذه الخطوة وأسبابها وأبعادها ومراميها والأطراف التي حرّضت ودعمت، والأطراف المستفيدة، وكيف ستكون أوضاع السودان إذا -لا قدر الله- نجحت تلك الخطوة؟
وقبل أن نسترسل في محاولات الإجابة عن هذه الأسئلة وأشباهها، نذكّر أن الجيش السوداني قد تصدى لهذه المحاولة الانقلابية ببسالة فائقة ومهنية عالية؛ فأحبطها وأبطل مفعولها رغم ما انطوت عليه من المفاجأة والسرعة، ويزداد الإعجاب بمهنية الجيش السوداني وبسالته إذا علمنا أن قوات الدعم السريع كانت منتشرة أصلاً في القيادة العامة والقصر الجمهوري بحجة حماية نائب رئيس مجلس السيادة قائد الدعم السريع، فهي إذن لم تأت من الخارج لتحتل مواقع سيادية، وإنما استغلت وجودها أصلاً لتنفيذ الانقلاب.
قوات الدعم السريع قوات مقاتلة خفيفة الحركة التسليح، أنشأها الرئيس المعزول عمر البشير لمواجهة حركات التمرد المسلحة التي كانت تنشط في حرب عصابات ضد الدولة في غرب البلاد (دارفور وكردفان)، وتتكون قوات الدعم السريع من مجموعات بدوية مقاتلة، تولى البشير تدريبها وتسليحها لمواجهة حركات التمرد، ونظّمها في البداية تحت قوات حرس الحدود، ثم ما لبثت أن انفصلت تحت مسمى «قوات الدعم السريع»، وقد أبلت بلاءً حسناً في مواجهة حركات التمرد وأنزلت بها هزائم ساحقة وقصمت ظهرها، ساعدها في ذلك عاملان أساسيان: الطبيعة البدوية المقاتلة، وسهولة الحركة في مناطق يألفونها ويعرفونها جيداً.
إلى هنا والأمر طبيعي ومفهوم للسودانيين وللعالم الخارجي؛ قوات خاصة لمهام خاصة تتبع لرئيس الجمهورية وتشكلت بقانون خاص تمت إجازته من المجلس الوطني (البرلمان)، وحققت انتصارات باهرة وقصمت ظهر التمرد، وذلك في الفترة التي أعقبت انفصال جنوب السودان عام 2011.
حسناً، إذا كانت الأمور إلى هذه الفترة طبيعية، فما الذي حدث بعد ذلك وقاد إلى الأحداث التي نشهدها اليوم من محاولة انقلابية وأوضاع مأساوية؟
الذي حدث أن قوات الدعم السريع مرّت بتطورات وسمت مسيرتها وتفاعلت مع أحداث اعترضت طريقها وتشاركت مع أطراف حاولت تجييرها واستثمارها لأهداف خاصة، مع وجود رجل على قيادتها يجمع بين البساطة والطموح المُغالى فيه دون النظر الى معادلات الواقع السياسي والاجتماعي الداخلي ولا الوضع الدولي والإقليمي المتصارع على السودان، كل ذلك أدى إلى نمو سرطاني لقوات الدعم السريع، وكان لا بد لهذه الأورام السرطانية أن تُستأصل بطريقة أو أخرى، وهو ما تفعله القوات المسلحة السودانية الآن في توقيت يراه المراقبون والخبراء متأخراً جداً؛ مما يزيد تكاليف العملية، ويفاقم من آثارها الجانبية، وهذه هي طبيعة التعامل المتأخر مع الأورام السرطانية.
أول التطورات الخطيرة التي ساهمت في بداية انفلات قوات الدعم السريع أن الرئيس المعزول البشير دفع بها للمشاركة في «عاصفة الحزم» في اليمن ضمن التحالف العربي الذي تشكل من بعض دول الخليج للتدخل في اليمن، وهو القرار الذي وصف بأنه القرار الوحيد الكبير والخطير الذي لم يستشر فيه البشير لا المجلس الوطني ولا المكتب القيادي للحزب الحاكم، وأمر بهذه الضخامة والخطورة كان لا بد أن يفرز آثاراً وتطورات مكافئة لضخامته، ومن هنا بدأت خيوط المأساة تتضح وتظهر في الوقت الذي بدأ فيه نظام البشير يضعف ويكابد الأزمات إلى أن انهار تماماً في النهاية، إذ بدا لقائد الدعم السريع أنه تجاوز المحلية إلى الإقليمية، وأسندت له أدوار خارج حدود الوطن، وتلقفته دولة خليجية مشاركة في الحرب ومعروفة بطموحاتها الإقليمية وبعلاقتها -لاحقاً- مع «إسرائيل» وأغدقت هذه الدولة الأموال على قائد وجنود الدعم السريع؛ فتضخم الشعور بالعظمة لدى قائد الدعم السريع، ومما زاد الطين بلة أن أُسندت لقوات الدعم السريع مهام متعلقة بمكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، وهو ملف أوروبي أضاف إلى قوات الدعم السريع بُعداً عالمياً بعد البُعد الإقليمي.
في 11 أبريل 2019، قررت اللجنة الأمنية لنظام البشير اعتقال البشير وقادة نظامه وإنهاء حقبة «الإنقاذ» التي استمرت لـ30 عاماً؛ وذلك إثر تنامي الاحتجاجات الشعبية وفشل البشير ونظامه في التعاطي معها ضمن أسباب كثيرة اكتنفت الساحة السياسية السودانية، وأدت إلى انهيار نظام البشير، ولكن المفاجأة أن قوات الدعم السريع التي كان يدخرها البشير لحماية نظامه قد انحازت لهذا التغيير وساهمت في إنهاء حقبة «الإنقاذ»، والمفاجأة الأخرى أن قائد الدعم السريع قد تم اختياره نائباً لرئيس مجلس السيادة الذي تشكل بعد التغيير، وأصبح رمزاً للسيادة وقام مقام رئاسة الجمهورية، وبقي قائد الدعم السريع في منصبه الجديد رغم أن مجلس السيادة قد تم حلّه وإعادة تشكيله مرتين خلال هذه الفترة.
إذن، سارت التطورات السياسية في السودان بقائد الدعم السريع خلال أقل من عقد من الزمان، وساقته من رجل بسيط وجندي في قوات حرس الحدود إلى نائب رئيس الدولة في السودان، ويمتلك أموالاً طائلة من خلال شركاته التي أنشأها وتعمل في مجال التعدين والتجارة الخارجية، ولأن هذه التطورات غير طبيعية، مضافاً إليها أن الرجل يتصف بالطموح والبساطة؛ فقد أغرى ذلك بعض شياطين السياسة داخل السودان وخارجه أن يوعزوا للرجل أنه يمكن أن يكون رئيساً للسودان، وعلى خلفية تعقيدات كثيفة في المشهد السياسي السوداني وإثر تطورات وأحداث كثيرة، يبدو أن المسألة راقت للرجل؛ فأقدم على مغامرته في 15 أبريل 2023 محاولاً الانقلاب على الدولة واستلام السلطة بالقوة، وهي المحاولة التي تحطمت على صخرة بسألة ويقظة القوات المسلحة السودانية؛ فتصدت لها وأحبطتها، وأعلن القائد العام رئيس مجلس السيادة أن قوات الدعم السريع قوات متمردة، فتم حلّها ومطاردة قادتها ومن لم يستسلم من جنودها، وهكذا تحوّل قائد الدعم السريع من «نائب لرئيس الدولة» فجر 15 أبريل 2023 إلى «متمرد مطارَد ومطلوب للعدالة» ظهر نفس اليوم، ولله في خلقه شؤون وله الأمر من قبل ومن بعد!
فصول هذه الملهاة/المأساة لم تنته بعد، وخباياها لم يتم الكشف عنها كلها وتورط دول وأحزاب وشخصيات فيها مما ينتظر معلومات أوفى لا بد سيكشف عنها قريباً ليعلم الجميع كم كانت المؤامرة كبيرة بقدر ما كانت التطورات غريبة.