على الرغم من مجيء مقصد حفظ المال في رتبة متأخرة عن حفظ النفس والنسل؛ وجدنا الشريعة تُعْنَى عنايةً كبيرة بمقاومة جريمة الربا التي تمثل قمة التهديد لأموال العباد، وقد حُرّم ربا الديون (ربا الجاهلية) بِنَصِّ القرآن، ويبلغ التحريم لهذا النوع من الربا ذروته في سورة البقرة، التي حرّمته تحريمًا قاطعًا قليلًا كان قَدْرُه أو كَثِيرًا، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)) (البقرة 278-279)، وضابط هذا النوع من الربا أنّه: “زيادة مشروطة في دين مقابل الأجل”.
أمّا ربا البيوع فهو الذي حُرِّمَ في السنة، في أحاديث كثيرة أهمها حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»([1])، فهذه الأصناف الستة وما يقاس عليها من الأموال إذا بيع بعضها ببعض مع الاتفاق في الجنس والعلة حَرُمَ التفاضُلُ والنَّساء (التأجيل)، ومع الاختلاف في الجنس والاتفاق في العلة جاز التفاضل وحَرُم النَّساء، وأهم هذه الأموال الذهب والفضة وما يقاس عليهما – بجامع الثمنية – كالعملات المالية المعاصرة، فكل هذه النقود تجري فيها أحكام الصرف وأهما وأبرزها حرمة التأجيل، ووجوب التقابض الفوريّ.
كي لا يكون دولة بين الأغنياء
وحول الربا جملة من المعاملات تُشَكِّل حزمة متآلفة من الجرائم المهددة للأسواق والاقتصاد وللعدالة الاجتماعية، كالاحتكار بكل صنوفه وضروبه، والنجش بكل صوره وأشكاله، وغير ذلك من أنواع الحيل التي تعوق عمل القانون الطبيعي للسوق (العرض والطلب) كبيع الحضر للباد وتلقي الركبان وغير ذلك، كل هذه الجرائم المالية قَدِمَتْ إليها الشريعة بأحكامها فأبطلَتْها، وأحاطَتْها بجملة من الأحكام، التي يناط بعضها بالتجار وبعضها بالجمهور وبعضها بولاة الأمور وبالأنظمة الحاكمة، والتي من شأنها أن تحرس السوق من الألاعيب التي تخل بالتعاملات ومن ثم بالعدالة الاجتماعية، وتسبب المظالم الكبيرة في ميدان المعاملات المالية، وقد تقررت الأحكام بآيات وأحاديث كثيرة، كلها تحقق الغاية المحددة أفقيًّا في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (النساء: 29)، ورأسيًّا في قول الله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر: 7).
الواقع الأليم والمصاب الجسيم؟
وعلى الرغم من انتشار الربا سابقًا في شتى أقطار العالم إلا أنّ مضرته لم تكن عامّة طامّة؛ لأنّ وقوعه آنذاك كان بصور فردية، ولأنّ الأمّة الإسلامية كانت برغم ضعفها مستقلة لا تتأثر كثيرا بتعاملات الآخرين، لكن مع بدء الحروب الصليبية ثم الكشوف الجغرافية اعتاد الأوربيون الذين يرتحلون للتجارة أو للقتال أو لغير ذلك مما له علاقة بانفتاح أوربا على العالم، اعتادوا أن يضعوا أموالهم لدى صيارفة يهود على سبيل الأمانة، ويدفعون عليها أجرا، ويقبضون لضمانها إيصالات أمانة، وبمرور الوقت ومع إدمان الصيارفة اليهود إقراض تلك الودائع لغير أصحابها تطور الأمر فطبعوا إيصالات مزركشة مكتوب عليها بدلا من اسم العميل عبارة (لحامله)، وسرعان ما راحوا يقرضونها هي الأخرى، ثم لم يلبث الناس أن تعاملوا بها من قبيل التساهل والتخفيف؛ ومن هنا نشأت ثلاثة نظم جهنمية: النظام الربويّ العام، والنقود الورقية، وخاصيّة خلق النقود، وبالطبع ظهرت فكرة البنوك.
والبنوك ليست سوى مؤسسات مالية تقوم بالاتجار في الائتمان (القروض والديون) لكنّها إلى جانب ذلك تقوم بخلق الديون التي تستعبد بها العالم، فبحسب “الموسوعة البريطانية الإصدار الرابع عشر” فإنّ “البنوك تخلق القروض، إنّه لمن الخطأ أن نفترض أنّ القرض المصرفيّ مؤلف من المدخرات المالية الموجودة في المصرف”([2])، وبهذه الآلية مع تحكمها في إصدار النقود الورقية صارت تتحكم في الشعوب وتفرض عليها الربا فرضًا، ومن المشهور أنّ “توماس جفرسون” كاتب الدستور الأمريكي كان قلقًا من هذا الأمر، حتى لقد نُقل عنه قوله: “أعتقد أنّ مؤسسة البنوك أكثر خطورة من الجيش المسلح، وإذا ما سمح الشعب الأمريكي للبنوك الخاصة بالتحكم في إصدار العملة فإنّ المصارف والشركات التي يديرها أصحاب هذه البنوك سوف تسلب الناس جميع ممتلكاتهم إلى أن يستيقظ أولادهم فيكتشفوا أنهم بلا مأوى”([3]).
وها هو الغبار ينتشر ويعم المعمورة
وإزاء هذا النظام الذي أحكم قبضته على الدنيا لا يستطيع أحدٌ أن يملأ فمه بالزعم بأنّه سالم من غبار الربا ودخانه، مهما كان معتصما بالشريعة ومتمسكا بأحكامها ومجانبًا للربا وما يدور حوله من تعاملات محرمة جميعها تدخل في أبواب أكل أموال الناس بالباطل
هنا ندرك دقة التعبير النبويّ في الحديث الذي أنبأ بما نعانيه اليوم، فعن الحسن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا أَكَلَ الرِّبَا، فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ»([4])، قال الحاكم “وقد اختلف أئمّتُنا في سماع الحسن عن أبي هريرة فإن صح سماعه منه فهذا حديث صحيح”، وعلق الذهبيّ: “سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح”([5])، ففي زماننا هذا مَنْ لم يأكل الربا قصدًا ناله من غباره، ووجه الاستعارة “أن الغبار إذا ارتفع من الأرض أصاب كل من كان حاضرا وإن لم يكن أَثَارَهُ، كما يصيب البخار إذا انتشر مَنْ كان حاضرًا وإن لم يتسبب فيه بل كان مارًا في الطريق”([6])، وجميع البشرية اليوم يصيبها من هذا الغبار النّكد ما يُزْكِمُ الأنوفَ وتَشْرَقُ به الحلوقُ؛ لأنّه لا طريق للتنمية تمر به إلا من تحت مظلة النظام الماليّ الربويّ المهيمن، فكل إنسان اليوم – مهما احتاط – واقعٌ في المفسدة؛ لأنّه “وإن لم يأكل الربا قصدا، لكنّه يصيبه بغير اختياره، حيث لابد له من التعامل مع الناس”([7])؛ فأين يذهب الناس؟ وما السبيل لتحرير الخلق؟
أين المخرج؟ وهل إلى خلاصٍ من سبيل؟
لا سبيل على المستوى الفرديّ إلا بمجانبة كل معاملة يشتبه أنها من الربا، مع تشجيع المشاركات والمضاربات؛ لخلق طبقة متوسطة تحمي الاقتصاد وتنشر ثقافة العقود الشرعية، أمّا على المستوى الجماعيّ فلا سبيل إلا بالخروج من الهيمنة المفروضة علينا ولو بالتدرج البطيء الذي يبدأ بتحالفات اقتصادية عربية وإسلامية، ثم السعي مع قوى واقتصادات طامحة لإعادة ربط العملات بالذهب، لاسيما وأنّ هذا كان هو الأصل عند إنشاء النظام المال العالميّ في (بريتون وودز) بولاية هامبشاير في يوليو من عام 1944م، حيث ناقش ممثلوا 44 دولة، وحيث كان يمكن للحكومات مبادلة الدولارات المتراكمة بالذهب([8]).
والذهب والفضة نقدان فطريان قد انضبط وجودهما في الطبيعة وانضبطت معهما وظيفتهما على مدى التاريخ، إضافة للنفاسة والجودة وعدم الخضوع لعوامل الفساد والتحلل؛ لذلك يرى البعض أنّ تحريم اكتنازهما له حكمة غير مجرد الزجر عن الشح والإمساك، وهي أنّ اكتنازهما يعطل الوظيفة التي من أجلها خلقا، وهي الثمنية، فـإنّ “اختصاص الذهب والفضة بتحريم الاكتناز دون غيرهما من الأموال يفضي بهما حتما إلى وظيفة الثمنية”([9]).
ومع ذلك لابد من الإنتاج فإنّه أساس العمران، كما قال ابن خلدون: “إنّ الأموال من الذهب والفضة والأمتعة إنّما هي معادن ومكاسب … والعمران يظهر بالأعمال الإنسانية، ويزيد فيها أو ينقصها، وما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث … فالنقود يوفرها أو ينقصها العمران”([10])، ولابد من تطوير عمل المصارف الإسلامية بما يحررها من هيمنة النظام العلالميّ وما فرضه عليها من قيود أوقعتها في أكل الربا بالحيلة، والشريعة زاخرة بالحلول والبدائل الشرعية، والله المستعان.
_____________________________________________________
([1]) صحيح مسلم (3/ 1211) برقم (1587)
([2]) استعباد العالم – فالنتين كاتاسونوف – ترجمة د. إبراهيم استانبولي – الهيئة العامة السورية للكتاب – ط أولى 2018م صـــ184
([3]) استعباد العالم – فالنتين كاتاسونوف – ترجمة د. إبراهيم استانبولي – الهيئة العامة السورية للكتاب – ط أولى 2018م صـــ147
([4]) سنن أبي داود (3/ 244) برقم (3331) – سنن النسائي (7/ 243) برقم (4455) – سنن ابن ماجه (2/ 765) برقم (2278).
([5]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 13).
([6]) شرح سنن أبي داود لابن رسلان (14/ 22)
([7]) ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (34/ 103)
([8]) الاقتصاد العالمي المعاصر – ألفريد إكس الابن – ترجمة أحمد محمود – المركز القزمي للترجمة – الهيئة العامة لدار الكتب ط أولى 2014م صـــ 59-60
([9]) نقود العالم .. متى ظهرت ومتى اختفت؟ – السيد محمد الملط – الهيئة المصرية العامّة للكتاب – ط 1993م صــــ34