لا ريب أن معرفة الله عز وجل هي أصل التزكية والبناء النفسي للإنسان، فالإنسان مفطور على أن يعرف الله ويعبده، وما لم يصل إلى الغاية من ذلك يظل في قلق واضطراب، لذلك فإن لمعرفة الأسماء الحسنى آثاراً عظيمة على الإنسان وسلوكه وتكوينه النفسي، ويمكن تلخيص الآثار النفسية والتربوية لمعرفة الأسماء الحسنى وتأملها ومعايشتها في المعاني الآتية:
1- الأسماء أصول المعرفة:
إن الأسماء الحسنى هي الباب الأعظم لمعرفة الله، والإيمان به على علم، فلا يمكن للإنسان أن يؤمن بإله لا يعرفه جملة، أو لا يعرفه معرفة كافية، وربما يكون هذا أحد مداخل الإلحاد على امتداد تاريخه؛ إذ يزعم دجالو الإلحاد وكهنته في كل جيل أنهم يقدمون للناس إلهاً محسوساً وتفسيراً مادياً ملموساً، والإسلام في تعريفه بالله يخاطب العقل والقلب بعدد كبير من أسماء الله وصفاته، ويجعل ذلك أساساً تبنى عليه المعرفة الحسية القائمة على التدبر في خلق الله وآلائه لتكتمل عدة الإيمان بالمعرفة العقلية والإيمان القلبي والأدلة الحسية، ولا يمكن أن يكون أصل الإيمان قائماً على الإدراك الحسي وحده؛ ذلك أن الإنسان لم يشهد بدايات الخلق ولا سبيل لديه إلى معرفتها إلا الإيمان، كما قال الله تعالى: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ (الكهف: 51)، ومن ثم فالإدراك الحسي وحده لا يمكن أن يقدم تصوراً كاملاً بمعزل عن الإيمان القلبي؛ لذلك كان التركيز القرآني المتكرر على مبدأ الإيمان بالغيب ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ (البقرة: 1 – 3).
ولا يستطيع المرء مهما بلغ من حدة العقل وصفاء النفس أن يعرف عن الله كل تلك الصفات التي أثبتها سبحانه لنفسه إلا من طريق الوحي، وإن ديناً لم يقدم تصوراً كاملاً متكاملاً دقيقاً عن الله كما فعل الإسلام.
وكل اسم من أسماء الله الحسنى باب من العلم، فلكل اسم معناه وتجلياته في حياة الإنسان، وأثره في نفسه، وشواهده في الكون، ودلالته على سنن الله في خلقه، وعلى أفعاله سبحانه وأقداره، إن الأسماء الحسنى لا تزيدنا فقط معرفة بالله لكنها تزيدنا معرفة بأنفسنا وفهما لحياتنا، وقدرة على استيعاب ما يجري في الكون من حولنا، وتفسيره تفسيراً صحيحاً، ومن هنا يتبين أن دوائر المعرفة التي تتيحها لنا الأسماء الحسنى غير متناهية وتحصيل إشراقاتها فضل إلهي يوفق الله إليه من يشاء من عباده!
2- الأسماء والصفات معراج الارتقاء:
يتيح العلم بالأسماء والصفات للإنسان أن يترقى من خلالها في ميدان المعرفة والتعبد، فالتعامل مع الأسماء الحسنى يمر بمراحل، ويرتقي في معارج يبلغ منها كل امرئ على قدر جهده وتوفيق الله له، وهذه المراتب كما يأتي:
الأولى: إحصاؤها ومعرفة ألفاظها: وقد حثنا الله عز وجل على لسان نبيه على إحصاء الأسماء الحسنى ومعرفتها، وتلك أولى مراتب الارتقاء في معراجها الأسنى.
الثانية: فهمها وإدراك معانيها؛ ونعني بذلك المعنى اللغوي لكل اسم، والمعنى الاصطلاحي كما يفهم من الكتاب والسُّنة، وموقع هذا الاسم من الأسماء القريبة من معناه، ودلالته عندما يقترن بغيره من الأسماء، والصفات والسنن والأفعال التي تندرج تحت هذا الاسم.
الثالثة: الدعاء بها والتعبد بمقتضاها، ولكل اسم من أسماء الله تعالى سياقات تناسبه ويكون التوسل إلى الله بهذا الاسم مناسباً فيها، والله تعالى يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 180).
الرابعة: العيش في رحابها وخوض غمار الحياة تحت ظلالها، وملاحظة آثارها في كل قضاء يقع.
3- الأسماء أصول التنزيه:
إن كل اسم من أسماء الله بمثابة طريق موصلة إلى توحيده وتنزيهه، وذلك حين يدرك الإنسان كمال الصفة أو الصفات التي يعبر عنها الاسم في حق الله، وحين يدرك حاجة الخلق إلى هذه الصفة في ربهم، وحين يدرك آثارها في الوجود، وحين يدرك عجز الخلائق عن بلوغها فلا يملك المرء حينها إلا أن يمجد الله ويسبحه، ويذكره بأسمائه وصفاته، معتقداً وحدانيته وتفرده عن خلقه ونفي الشبيه والمثيل عنه، وتنزهه سبحانه عن كل نقص.
4- الأسماء أصول الدعاء:
إن من أعظم مقاصد الأسماء الحسنى أن ندعو الله بها، فكل اسم من الأسماء له حالات مما يمر به الإنسان يناسبه أن يدعو بهذا الاسم، ويتوسل إلى الله به، والله تعالى يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 180)، ويقول: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (الإسراء: 110)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر التوسل إلى الله عز وجل بأسمائه الحسنى إما ببعضها مما يناسب معنى الدعاء أو بها مجتمعة، فمن الأول ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأبي عيّاش زيد بن الصامت وهو يصلي، وهو يقول: اللهمَّ إني أسألك بأنَّ لك الحمدَ، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديع السماوات والأرض ذو الجلالِ والإكرام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد سألتَ الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»(1).
ومن الدعاء بجملة الأسماء قوله صلى الله عليه وسلم: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي»(2).
5- الأسماء أصول المحبة:
إن من أعظم آثار الأسماء الحسنى أنها تقود من يؤمن بها إلى أن يحب الله تعالى بكل أسمائه وصفاته، فكل اسم من هذه الأسماء المباركة يستحق أن نحب الله ونعظمه ونجله لأجله؛ فالإنسان مجبول على حب الكمال وكل اسم فيه معنى الكمال، كما أن مشاهدة آثار كل اسم في حياتنا يكشف للإنسان ما يحوطه به ربه من النعم التي لا تعد ولا تحصى فتزداد محبته لربه.
إن الأسماء الحسنى طريق لمعرفة الرب، والمعرفة طريق للحب، ولهذا يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: «أحب عباد الله تعالى إليه، وأكرمهم عليه: العارفون بما يستحقه مولاهم من أوصاف الجلال، ونعوت الكمال، فهم في رياض معرفته حاضرون، وإلى كمال صفاته ناظرون، إن نظروا إلى جلاله هابوه، وإن نظروا إلى جماله أحبوه، وإن نظروا إلى شدة نقمته خافوه، وإن نظروا إلى سعة رحمته رجوه»(3).
ويقول ابن القيم رحمه الله: «فالمحبة هي المنزلة التي تنافس فيها المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروّح العابدون، وهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حُرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عُدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، والتي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه»(4).
6- معايشة الأسماء أساس الثبات:
من سنن الله في المؤمنين الابتلاء والتمحيص، ومعرفة الأسماء تورث المؤمن اتصالاً بالله ومعرفة به يطمئنان قلبه ويقويان عزمه ويجعلانه أقدر على الثبات في مواجهة الفتن ارتكاناً إلى ركن الله الشديد: ﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ (طه: 46).
7- الأسماء أصول العبادة:
تتنوع صور العبادة بتنوع الأسماء والصفات، فمن يؤمن باسم الله «السميع» يحفظ لسانه ويلح في الدعاء ويكثر من المناجاة، ومن يؤمن باسمه الكريم لا ييأس من عطاء ولا يكف عن طلب، وهكذا يفتح كل اسم أبواباً من العبادة في نفس المؤمن، وهذه العبادات القلبية بما تورثه من خشوع ومراقبة وخشية وإجلال ويقين وتوكل ورجاء.. هي أركان العبادة الحقة.
8- الأسماء أساس العمل الصالح:
الإيمان بالأسماء يملأ القلب رغبة في العمل النافع وحباً للإصلاح والاستقامة، فكل سعي ولو كان يسيراً عند الله مشكور، وصاحبه محفوظ ومأجور، والله يحصي لعبده أو عليه ويجازيه على موازين الذر من العمل طاعة ومعصية.
9- الإيمان بالأسماء والصفات أساس الخشية:
فملاحظة اسم الله الرقيب أو الحسيب أو الشهيد أو المحيط.. تورث القلب الخوف من معصية الله والحذر من غضبه، وتجعل الإنسان دائما يراقب الله عز وجل فتقل أخطاؤه ويكثر خيره.
10- الإيمان بالأسماء الحسنى أساس المحبة بين الناس:
يحمل المؤمن على حب الناس وحب الخير لهم ومعاملتهم بالإحسان والبر تأسياً بصفات الإحسان والكرم والفضل التي وصف الله تعالى بها نفسه.
_____________________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وأبو داود والنسائي، انظر: صحيح الترغيب، 1641.
(2) مسند أحمد، 3712.
(3) شجرة المعارف والأحوال، ص 10.
(4) مدارج السالكين، 3/ 8، 9.