لا شك أن هناك اختلافاً جوهرياً بين الآباء القدامى والمعاصرين في ظروف وتحديات تربية الأبناء، وبقدر حسن التعامل مع التحديات تكون الثمرة.
من هنا تأتي أهمية هذا التحقيق عبر صفحات «المجتمع»، الذي يتساءل: هل يختلف آباء هذا العصر عن آبائنا في الماضي؟ وما التحديات التي تواجه الآباء في عصرنا؟
في البداية، يقول د. جمال شفيق، أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس: لا شك أن الطرق التي يتعامل بها الآباء مع أبنائهم لها تأثيرات كبيرة على صحتهم النفسية والعقلية، بل وقدرة هؤلاء الأبناء على التحكم في دوافعهم المختلفة، وانفعالاتهم المتعددة في التعامل مع الآخرين، ولهذا فإن الأب الناجح هو من يقوم بتأسيس علاقة قوية مع أبنائه في كل مراحل حياتهم، وخاصة في مرحلة الطفولة، ويجعلهم يتعلقون به أكثر من الآخرين.
تقلص مساحات التقارب الأسري والنفسي بسبب التكنولوجيا
ويشير إلى أن هناك فروقاً كبيرة بين الآباء القدامى والمعاصرين، ولكل من الجيلين عوامل إيجابية وأخرى سلبية، فمثلاً الآباء القدامى كانت الحياة بسيطة جداً؛ مما أتاح مساحة كبيرة للتماسك الأسري والدفء العاطفي؛ لأن الآباء والأبناء يقضون معاً وقتاً طويلاً، مما زاد من مساحة التفاهم والتقارب النفسي والعاطفي، كما أن البيئة نفسها كانت بسيطة، وليست فيها عوامل تساعد على تباعد الأبناء عن آبائهم وأمهاتهم، ولهذا كان الأب هو المتحكم الأول في حياة أبنائه، وبقية العوامل الأخرى أقل تأثيراً بكثير، فكان الوالدان –خاصة الأب- ينجحان في تشكيل أولادهما بشكل كبير، ولهذا كنا نلحظ كثيراً توارث الأبناء مهن آبائهم –أياً كانت– ويفخرون بذلك، وكانت الجرائم الأسرية أو حتى العائلة بين الأقارب نادرة جداً، بل وتعد عاراً تخشاه الأسر نفسها، وعلى سمعتها وسمعة أبنائها وبناتها، وتتوارث الأجيال سمعة أسرهم سواء بالخير أو الشر.
وأضاف أن الآباء المعاصرين رغم ارتفاع المستوى التعليمي لديهم، والتطور العلمي في الحياة، فإنهم أقل تأثيراً في حياة أبنائهم، مع تراجع دور الأسرة بوجه عام في تربية أبنائهم، فقد ظهرت عوامل أخرى أكثر جاذبية وتأثيراً.
التفاعل الاجتماعي
وترصد د. منى مدحت، أستاذ علم الاجتماع- جامعة عين شمس، هذا التراجع المستمر في دور الأسرة المعاصرة، وبالتبعية دور الآباء، في تنامي دور الأصدقاء أو «شلة الأنس»، كما يحلو للبعض تسميتها، والإنترنت، وما يتضمنه من وسائل التواصل، والهاتف المحمول الذي قرب البعيد، وباعد القريب، حيث تحول أفراد الأسرة إلى أشباه الغرباء تحت سقف واحد، وأصبح لكل منهم عالمه الخاص، بعدما أصبح الجميع –خاصة الأبناء– أسرى للهواتف المحمولة التي تسهل تواصلهم في أي وقت، واختيار أصدقائهم الافتراضيين، حتى إن الأب قد يكون جالساً بجوار ابنه ولا يعرف ما يفعله بهاتفه المحمول، ولست مبالغاً أنه قد يقع فريسة للمواقع الإباحية أو شبكات الإلحاد ووالده بجواره لا يعرف شيئاً.
«شلة الأنس» أكثر تأثيراً من الأب خلال مرحلة المراهقة
وتشدد على أهمية تقوية الآباء والأمهات علاقاتهم بأبنائهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، عن طريق الإقناع والتبرير، وليس العنف والإجبار والضرب، بل لا بد من إتاحة الخيارات، واستخدام مبدأ الثواب والعقاب، ولكن بشكل عصري.
التربية بذكاء
ويؤكد د. مصطفى رجب، العميد السابق لكلية التربية بجامعة سوهاج، أن الحل هو التربية بذكاء لتحقيق الانضباط والتواصل بين الآباء والأبناء من خلال تطبيق الحكمة المأثورة: «كن لابنك معلماً وهو طفل، وصديقاً حين يكبر»، فإذا حدث هذا بوعي من الآباء واستجابة سليمة من الأبناء، حينها ستحقق المقولة المأثورة: «اجعل من يراك يدعو لمن رباك»، فالتربية الخلقية بالقدوة أهم للطفل من المأكل والمشرب؛ لأن جذور التربية الصحيحة مرة إلا أن ثمارها حلوة.
ويشير إلى أنه يجب على الآباء التسلح بالصبر والذكاء والابتعاد عن الانتقاد الدائم، والصوت العالي في التعامل مع الأبناء، بل لا بد أن نتفهم أن أبناءنا لن يكونوا أبداً نسخة طبق الأصل منا، بل إنهم مختلفون عنا، وصدق الإمام عليّ رضي الله عنه حين قال: «لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم».
ولهذا من الخطأ في التربية لجوء بعض الآباء والأمهات إلى حرمان أبنائهم من الهواتف المحمولة أو منعهم من الصداقة الحقيقية أو الافتراضية عبر وسائل التواصل؛ لأن المنع ليس حلاً، بل يحولهم إلى الانطوائية والعدوانية والتحايل والكذب، ولهذا فإن الحل يكمن في الصدق والرفق المستمر، والنصح الدائم، والانتقال ما بين الترغيب والترهيب.
النصائح اللقمانية والسُّنة النبوية روشتة شرعية لتربية الأبناء
روشتة شرعية
يقدم د. محمد الجندي، عميد كلية الدعوة الإسلامية، نصائح تربوية من المنظور الشرعي قائلاً: أفضل التربية هي ما كانت وفق ما جاء في القرآن الكريم والسُّنة النبوية، فمثلاً النصائح التربوية اللقمانية لابنه الذي كان صفحة بيضاء، تعد نموذجاً عملياً للحوار الأبوي الحنون في التربية حتى يزرع الطمأنينة من قلب ابنه، وهي أعظم وسيلة في التربية الراقية وتعليم الأبناء، فقال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13)، (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 16)، البداية في التربية تكون بغرس العقيدة السليمة؛ لأنها بداية طريق الصلاح والخير للآباء والأبناء على سواء، ثم يكون بعدها النصح بإقامة الفروض الدينية وخاصة الصلاة: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ) (لقمان: 17)، فهذا يمثل التربية والتوجيه والموعظة بالتدرج؛ لأن كلاً من الأب والأم مسؤولان عن تعليم أبنائهما العبادات.
ويوضح الجندي أن لقمان الحكيم انتقل من العبادات إلى الأخلاق والسلوكيات فقال: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17)، ثم ينتقل إلى الآداب الحياتية التي تجعل الابن كائناً اجتماعياً محبوباً ملتزماً بدينه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {18} وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان).
وأنهى الجندي كلامه مؤكداً أن هذه التربية اللقمانية مع مراعاة الصفات الشخصية لكل طفل تؤدي إلى تنشئته وتعويده على فعل الخيرات وترك ما يخالف الشرع، ويجب على الأب التحلي بالصبر الذي لا يأتي إلا بكل خير، وليكن حواره الأبوي بقلبه قبل لسانه؛ حتى يكون أكثر تأثيراً في أولاده، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شَيءٍ إلَّا شانَهُ».