لم يكن أحدٌ من المشاركين في اللقاء الذي دعا إليه البابا أوربان الثاني في كليرمونت عام 1095م، يعلم أن خطاب البابا سيثير هذه الزوبعة الضخمة، وأنه سيطلق واحدة من أطول الحروب تجاه العالم الإسلامي، التي استمرت نحو قرنين من الزمان، تحت شعار تحرير القدس والبلاد المقدسة من أيدي المسلمين، فبعد 4 سنوات من خطاب أوربان سقطت القدس في أيدي الصليبيين في عام 1099م، وصُدمت الأمة حينها بمجازر فظيعة، تلاها تأسيس عدد من الإمارات الصليبية في القدس وطرابلس والرها وغيرها.
وعلى الرغم من حالة الضعف في الأمة، فإن محاولات استعادة زمام المبادرة بدأت بالتبلور، حتى وصلت إلى عماد الدين زنكي الذي استطاع تحرير مدينة الرها من الاحتلال الصليبي في 6 جمادى الآخرة 539هـ، ثم خلفه نور الدين الذي كسر الحملة الصليبية الثانية، واستطاع توحيد بلاد الشام ومصر، مع إسقاط الدولة الفاطمية على يدي صلاح الدين الأيوبي؛ ما عزز بوادر استعادة الأمة لزمام المبادرة.
صلاح الدين واستكمال الجهود الإصلاحية والسياسية
وبعد وفاة نور الدين، شهدت بلاد الشام اضطرابًا بين ورثته وأمرائه، فأدت هذه الخلافات إلى تأخير التحرير نحو 12 عامًا، وهي السنوات التي قضاها صلاح الدين في إعادة توحيد الشام، فما بين عامي 570 و582هـ، عمل صلاح الدين على إعادة توحيد الشام، فاستطاع فرض سلطته على دمشق، وحماة، وحمص، وبعلبك، ومن ثم الرها وحران وغيرها، وفي عام 582هـ دخلت الموصل وما يتبعها في حكمه، وفي خضم هذه الجهود العسكرية الكبيرة لتوحيد بلاد الشام، شهدت هذه المرحلة عددًا من المعارك والمناوشات مع الصليبيين الفرنجة، وقد سمحت لصلاح الدين بالتعرف بشكل مباشر على قدرات العدو وخططه خلال الحروب.
الإستراتيجية الصلاحية في 6 نقاط
لم تكن السنوات التي قضاها صلاح الدين من دون هدف، فقد بنى فيها إستراتيجيته في إعداد البيئة المناسبة والممهدة لتحرير القدس، واستطاع من خلالها أن يقوي جبهة المسلمين الداخلية، اقتصاديًا وعسكريًا، ومن أبرز ما تضمنته هذه الإستراتيجية ما يأتي:
1- توحيد المناطق الإسلامية المحيطة بفلسطين، متمثلة بالشام ومصر، لإعادة تشكيل القاعدة الصلبة القوية والآمنة، وهي الخطوة التي مهد لها نور الدين زنكي من قبل.
2- إصلاح الاقتصاد الإسلامي، وتحويل موارد الدولة من الاعتماد على الضرائب والمكوس التي كانت تفرض على عامة الناس، إلى مصادر أخرى متنوعة وشرعية، من بينها الجزية والخراج والغنائم، وإنفاق هذه الأموال في أوجهها المحقة، وإقامة الحصون وتشييد القلاع، ودعم الجهد العسكري الإسلامي.
3- إصلاح التجارة والزراعة، وبناء البنى التحتية اللازمة لتحسين الإنتاج الزراعي ونقله، وهو ما تجلى في تبادل المحاصيل الزراعية ما بين بلاد الشام ومصر، في سياق تحسين حياة الناس حينها، وتأمين ما يلزم للجيوش الإسلامية من إمداد وغذاء، وقد انعكست هذه الأمور على قطاعات مختلفة، فتطورت التجارة والصناعة.
4- بناء القدرة العسكرية للجيش الإسلامي، فعمل على تحصين المدن والقلاع، وعزز قدرات الجيش الإسلامي البحرية، لمواجهة أساطيل الصليبيين الفرنجة، وإدخال أساليب مختلقة في حشد الجيش وتقسيمه بحسب أنواع الأسلحة المستخدمة وغيرها من الطرق.
5- الاهتمام بالخدمات العامة وفي مقدمتها المشافي، فقد بنى صلاح الدين العديد من البيمارستانات (المشافي)، في أصقاع مختلفة من دولته، في القاهرة والقدس والإسكندرية وعكا؛ وهو ما يعكس حرصه على حفظ صحة الناس، وتطور العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية حينها.
6- وضوح هدف صلاح الدين بتحرير القدس من الصليبيين الفرنجة، وحشد كل الطاقات البشرية والعسكرية في سبيل تحقيق هذا الهدف.
من الإستراتيجية حتى التحرير
مهدت هذه الإستراتيجية الطريق لتحقيق الانتصار الضخم في معركة «حطين»، في 24 ربيع الآخر 583هـ/ 4 يوليو 1187م، ومن ثم تحرير العديد من المدن الفلسطينية، ومنها طبريا وعكا والناصرة وصفورية وغيرها، وفرض صلاح الدين الحصار على القدس في 15 رجب 583هـ/ 20 سبتمبر 1187م، وبعد العديد من المراسلات بين الطرفين، قبل صلاح الدين إعطاء الصليبيين الأمان مقابل فدية عن كل من يخرج من المدينة منهم، وتم تسليم المدينة في 27 رجب 583هـ/ 2 أكتوبر 1187م، بالتزامن مع ذكرى الإسراء والمعراج، وأمر صلاح الدين بإزالة ما أقامه المحتلون في «الأقصى»، وأمر بجلب منبر نور الدين إلى المسجد.