من أعظم ما يُميز دين الإسلام بيانه لكل ما يحتاج إليه العبد في سيره إلى الله، وجعلُه دليل هذا السير اتباع سبيل واضح وهو القرآن، فمن دونه لن يصل الإنسان أبداً إلى وجهته، لذلك صار لزامًا على كل مسلم أن يتعلم منهجية تلقي الرسول ﷺ وصحابته الكرام للقرآن، وأن يتعلم أثر عدم اتباع هذه المنهجية على حياته وواقعه، فحينما يُبصر الفرق بين الحياتين سيدفع نفسه حتمًا إلى الاستمساك بحبل الله المتين لينجو ويفلح.
منهجية تلقي القرآن في زمن النبوة
كثيرًا ما يدور التساؤل حول كيفية تربية القرآن لجيل الصحابة، وتأثيره فيهم أبلغ الأثر رغم غياب تأثيره على أغلب الجيل الحالي مع تملكهم ذات المعين الذي تملكه الصحابة! والجواب عن هذا التساؤل يكمن في تأمل هذا المشهد: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما نزلت على رسول الله ﷺ: (لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 284)، قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، فأتوا رسول الله ﷺ، ثم بركوا على الرُّكب، فقالوا: أي رسول الله! كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها؛ يقصدون قوله سبحانه: (وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ).. إلى آخر الحديث(1).
آية واحدة جعلت الصحابة في هذا القلق البالغ، فتلك الحساسية العالية تجاه الآيات ترجع لإدراكهم العميق أنهم مخاطبون بهذا القرآن، وأنهم مطالبون بالعمل بما فيه، فلم يطيقوا تصور عدم تطبيقها.
إن هذا التعامل سببه فهمهم لمعنى تلقي القرآن الذي يشمل التلقين والتعلم والفهم والقبول والعمل، ولذا كانت المنهجية النبوية لتلقي القرآن تشتمل عدة مراحل:
1- الإيمان قبل القرآن:
إن أول ما يجب أن يُعتنى به هو غرس الإيمان في النفوس، فتُربى على اتباع أوامر الله وتعظيم كلامه، فتأخذ الكتاب بحقه، فإذا شرعت في حفظه سارعت للامتثال، فتزداد به إيمانًا، يقول ابن عمر رضي الله عنه: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ(2).
2- تعلم المبنى والمعنى معًا:
تلقى الصحابة عن الرسول ﷺ المعنى والمبنى معاً، قال التابعي الجليل أبو عبدالرحمن السلمي رحمه الله: حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبدالله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعاً(3)؛ أي أن متعلم القرآن يصبح عالماً بما في السور من الأحكام والهدايات، فلم يكن تعلمه قاصرًا على مجرد ترديد السور دون فهم لمضامينها.
3- التدبر والمدارسة:
إن تدبر القرآن لا يأتي إلا بعد تعلم الإيمان وضبط المعنى والمبنى، لتكون النفوس والعقول مهيأة لاستخراج كنوز القرآن، فلا يكون همها مجرد القراءة، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة(4).
ثم تأتي المدارسة للآيات بما فيها من اجتماع على الطاعة وعصف ذهني جماعي يزيد الفهم والتثبيت.
4- العمل بما فيه:
إن هذا القرآن أُنزل ليُعمل به، قال الله عز وجل: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام: 155)، فالعمل بالقرآن سبب رحمة الله، ولكن المفهوم الآن قد تغير كثيرًا حتى أصبح استظهاره غاية الأمر، قال الحسن البصري رحمه الله ينهى عن ذلك: أُنزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً(5).
أثر البعد عن هذا الهدي النبوي
يتجلى أثر غياب هذا المنهج على واقع المسلم المعاصر في عدة أمور:
1- انفكاك القرآن عن التربية:
فكما تبين أن القرآن مربٍّ للنفوس ومُهذب للأخلاق، وهذا مرهون بمقدار ما يفهمه العبد ويطبقه من آياته، ولكن حصر التلقي في ضبط مبناه دون معناه قد أثمر بألا يُري أثره على أخلاق حفاظ القرآن إلا من صلح منهم تلقيه على ما سبق بيانه.
2- ضعف الإيمان:
من أشد أضرار تبني منهجية الحفظ دون فهم وعمل هو ضعف الإيمان، وبالتالي غياب ما يُثبِّت القلوب وقت الفتن والابتلاءات، وقد نزل القرآن منجمًا ليُصلح ذلك، يقول الله عز وجل: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (الفرقان: 32).
3- فصل العلم عن العمل:
جاءت فاتحة الكتاب محذرة من اتباع المغضوب عليهم الذين علموا الحق وتركوا العمل به، وكذلك الضالين الذين تركوا العلم وعملوا بجهل، فكيف يُعقل أن يردد مسلم تلك الآيات في كل صلاة ثم يسلك مسلكهم مكتفياً بقراءة القرآن دون تطبيق له!
4- خلل التصورات:
لن يجد العبد كتابًا يبني التصورات بشكل متكامل عن الموت والحياة، وصراع الحق والباطل، والسنن الكونية والطبيعة البشرية، وتفاصيل كل ذلك؛ مثل كتاب الله الخبير العليم الحكيم، ومهما جهِد العبد من مطالعة تصورات الفلاسفة أو الحكماء فلن تهديه سبيلاً، ولن يجد راحة قلبه واستنارة ذهنه إلا حين يُبصر بالقرآن.
وختامًا، فإن الفارق بين المنهجين بيِّنٌ، فالمنهج الأول في عصر النبوة قائم على الفهم والعمل، والمنهج الثاني في هذا العصر قائم في أغلبه على الاهتمام بالحفظ والترديد دون فهم أو عمل إلا ما رحم ربي، واتباع الهدي النبوي أفلح وأنجح، فهو دليل صدق محبة الله، قال الله سبحانه تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31)، فعلى كل مسلم أن يدرك أنه المعنيُّ بما في هذا القرآن، وأن مدار نجاته أو هلاكه معلق على فهمه وتطبيقه.
______________________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (125) وجاء فيه: «فَلَمَّا فَعَلُوا ذلكَ نَسَخَها اللَّهُ تَعالَى، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها ما اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا) (البقرة: 286) قالَ: نَعَمْ (رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عليْنا إصْرًا كما حَمَلْتَهُ علَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا)، قالَ: نَعَمْ (رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بهِ)، قالَ: نَعَمْ (واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فانْصُرْنا علَى القَوْمِ الكافِرِينَ)، قالَ: نَعَمْ».
(2) رواه الحاكم في «المستدرك» (1 / 35) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) أخرج الخبر ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر والمرهبي في فضل العلم بألفاظ متقاربة، والمثبت ما ذكره ابن تيمية في الفتاوى (13/ 329).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8733) وغيره، وهو صحيح بمجموع طرقه.
(5) عزاه ابن القيم إلى الحسن في مدارج السالكين (1/ 485).