إن من أخطر العلاقات الاجتماعية على المؤمنين علاقة اليهود بالمنافقين، فقد تشابهت قلوبهم وصفاتهم، فاتحد سلوكهم، وتظهر خطورة هذه العلاقة في قدرة المنافقين على العيش مع المؤمنين، والاتصال بهم، ومعرفة أحوالهم، والاطلاع على خططهم وأسرارهم، ثم خروجهم إلى اليهود وإمدادهم بما يريدون من معلومات وتصورات، وفي هذا خطر عظيم.
ويظهر هذا الخطر على المؤمنين في النقاط الآتية:
أولاً: كراهية المؤمنين وعداوتهم:
فاليهود والمنافقون يشتركون في كراهيتهم وعدائهم للمؤمنين، حيث قال الله تعالى عن اليهود: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة: 82)، وقال عن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) (المنافقون: 4)، وقد بيّن الحق سبحانه وتعالى أن هذه الكراهية تجعل المنافقين يتحالفون مع اليهود ضد المؤمنين، حيث قال عز وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) (محمد: 26)؛ قال ابن كثير رحمه الله: الآية تعني أن المنافقين واليهود قالوا للمشركين: سنطيعكم في بعض الأمر؛ أي في مخالفة محمد، والتظاهر على عداوته، والقعود عن الجهاد معه، وتوهين أمره(1).
وقد ظهرت هذه الكراهية بما ترتب عليها من تحالف بين المنافقين واليهود والمشركين في هجومهم أجمعين على المدينة المنورة في غزوة «الأحزاب» في العام الخامس من الهجرة النبوية، حتى اجتمعوا عشرة آلاف مقاتل، لكن الله خذلهم، ونصر رسوله والمؤمنين.
ثانياً: التجسس على المؤمنين:
فاليهود يستخدمون المنافقين في التعرف على أحوال المؤمنين، والإحاطة بأسرارهم، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في أغلب غزواته يتحرك بالجيش دون أن يخبر أصحابه بوجهته، ولا مكان إقامته، حتى يعمي على المنافقين معرفة المكان الذي يخرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالمنافقون لا يتورعون عن الإخبار بخطط سير المسلمين ومواطن القوة والضعف لديهم، بل إنهم يحرصون على تقوية اليهود وغيرهم بذلك، ومما يدل على هذا، ما كان من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يفتح خيبر، سارع زعيم المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول بإخبار اليهود، وطلب منهم الاستعداد، وصار يرفع معنوياتهم بالتهوين من قوة المسلمين، وذلك في رسالة بعثها مع أحد أعوانه، كتب فيها: إن محمداً سائر إليكم، فخذوا حذركم، وأدخلوا أموالكم حصونكم، واخرجوا إلى قتاله ولا تخافوا منه، إن عددكم كثير وقوم محمد شرذمة قليلون، عزّل لا سلاح معهم إلا قليل(2)، وهكذا يدوم التواصل بين المنافقين واليهود بغرض الوصول إلى الأغراض الخبيثة لهما.
ثالثاً: الإفساد بين المؤمنين:
فقد حرص اليهود على إيقاع العداوة بين المؤمنين، ويدل على ذلك ما كان من أمر اليهودي شاس بن قيس، الذي مر على نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ، يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، لَا وَاَللَّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ. فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مِنْ يَهُودَ كَانَ مَعَهُمْ، فَقَالَ: اعْمِدْ إلَيْهِمْ، فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، ثُمَّ اُذْكُرْ يَوْمَ بُعَاث، وَمَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنْ الْأَشْعَارِ.. فَفَعَلَ، فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنْ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرُّكْبِ، فَتَقَاوَلَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنْ شِئْتُمْ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً، فَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا، وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، مَوْعِدُكُمْ الظَّاهِرَةُ (وَالظَّاهِرَةُ: الْحرَّةُ) السِّلَاحَ السِّلَاحَ، فَخَرَجُوا إلَيْهَا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى جَاءَهُمْ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهَ اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمْ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟!».
فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا نَزْغَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَبَكَوْا وَعَانَقَ الرِّجَالُ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوِّ اللَّهِ شَأْسِ بْنِ قَيِّسْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران: 100)(3).
أما المنافقون فهم لا يتوقفون عن الإيقاع بين المسلمين، وقد عبر القرآن الكريم عن تصرفاتهم السيئة بقوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) (التوبة: 47)، فالمنافقون يتلونون بكل الوجوه، ولا يتورعون عن الكذب والفتنة بين المؤمنين.
رابعاً: التشكيك الدائم في هذا الدين:
فاليهود لا يتركون فرصة أو طريقة لإثارة الشبهات حول الإسلام إلا فعلوها، ومن أخبث أفعالهم أن فريقاً منهم كان يعلن إسلامه في أول اليوم، ثم يأتي آخره معلناً كفره، بغرض التشكيك في صحة هذا الدين وتنفير الناس منه، وقد بيّن الحق سبحانه وتعالى سوء صنيعهم هذا فقال: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (آل عمران: 72).
أما المنافقون فقد أعلنوا التشكيك في أحلك الظروف والمواقف، ففي غزوة «الأحزاب»، التي ابتُلي فيها المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (الأحزاب: 12).
خامساً: الموالاة والتوحد ضد المؤمنين:
فاليهود والمنافقون يجتمعون ضد المؤمنين دائماً، فالمنافقون يسارعون إلى اليهود طلباً للعزة لديهم، وقد بيّن الله تعالى ذلك بقوله: قال تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) (النساء)، وقال عز وجل: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة: 52).
ومن الوقائع التي تدل على تلك الموالاة بين اليهود والمنافقين، ما حدث في غزوة «بني النضير»، حيث ساند المنافقون اليهود ودعموهم، وقد بيّن القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الحشر: 11).
إن اليهود والمنافقين صنفان من الناس، تشابهت قلوبهم؛ فاتحد سلوكهم، فليحذر منهم كل من آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
________________________
(1) تفسير ابن كثير (7/ 269).
(2) السيرة الحلبية (3/ 49).
(3) سيرة ابن هشام، (1/ 556).