لم تعد حالة الفوضى التي تعج بها أرجاء المعمورة تقتصر على الجوانب العسكرية والسياسية، بل طالت أيضاً النواحي الثقافية واللغوية.
أبرز معالم حالة الفوضى اللغوية التي تواجه مجتمعاتنا خلال السنوات الأخيرة تمثلت في استخدام مصطلح «الإرهاب»، لا سيما في تصريحات المسؤولين والمتحدثين في وسائل الإعلام، حيث بات يطلق بشكل عشوائي وفضفاض دون ضابط أو معيار.
ومصطلح الإرهاب من أكثر المصطلحات استثارة للخلاف، حيث تباينت وجهات النظر، متأثرة بالمصالح الوطنية أو القومية أو الاعتبارات السياسية، وملأت قضية الإرهاب الدنيا، وشغلت الناس، وصارت حديثاً مشتركاً بكل اللغات، وعلى اختلاف الحضارات.
وفي ظل غياب الضوابط الحاكمة لمعجم مصطلحات الإرهاب يلتزم به المعنيون بهذه القضية والعاملون في مجال الإعلام، أصبح من الصعوبة بمكان تحري الدقة في استخدام مصطلح الإرهاب، وصار هناك خلط في استخدامه.
وفي ظل حالة الخلط هذه، بات مصطلح الإرهاب يطلق على مقاوم يتصدى لعدوان محتل غاصب لأرضه، في الوقت الذي لا توصف به قوات محتلة للأرض وتعيث فيها فساداً!
ويؤثر نشر المعاني الفضفاضة والمفاهيم المغلوطة المتعلقة بمصطلح الإرهاب سلباً على الكثير من مظاهر الحياة الإنسانية، وجوانب الاستقرار السياسي والأمني.
كما أن دخولها معجم الإعلام العربي أصبح له تأثير واضح في تشكيل وجدان الإنسان العربي والمسلم، وصار لهذه الكلمات تجليات حسِّية سلبية لدى المتلقي؛ مما خلق صورة مغلوطة عن المقاومة لدى بعض العرب أنفسهم.
ولا يخفى مدى التأثير والتأثر البالغ في المجال السياسي والنفسي، الناتج عن حالة الفوضى والغموض في معاني الكثير من مصطلحات الإرهاب المتداولة في الإعلامية.
وتستخدم وسائل الإعلام بشكل عام هذه المصطلحات الإعلامية الخاصة بظاهرة الإرهاب دون تحقيق أو تدقيق، الأمر الذي يؤثر سلباً في صدق ما تنشره وسائل الإعلام، ويحرم المتلقين من حقوقهم في الوصول إلى المعلومات الصحيحة، ويضر كذلك بالاستقرار السياسي والعلاقة بين الشعوب والحكومات.
بل الأسوأ مما سبق، هو أن غياب معجم موحد للإرهاب قد أسهم في دعم الإرهاب ومساندته بطرق غير مقصودة وغير مباشرة في كثير من الأحيان، بنشر تلك المفاهيم والمصطلحات، كما أدى إلى إلصاق تهمة الإرهاب بمن هم منها براء.
حرب غزة
لعل أوضح وأحدث الأمثلة على الخلط وعدم الدقة في استخدام مصطلح الإرهاب قد برز جلياً خلال الحرب الأخيرة بين حركة «حماس» والاحتلال الصهيوني في غزة.
فمنذ اللحظة الأولى لانطلاق شرارة الحرب التي تمثلت في هجوم «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، سارعت غالبية دول العالم، ومن بينها دول عربية مع الأسف إلى وصف هجوم المقاومة على الكيان الصهيوني القائم على أرض فلسطين المحتلة بأنه عمل إرهابي استهدف مدنيين أبرياء داخل الكيان الصهيوني.
وحتى بعد شن الاحتلال هجمات عبر الجو والبحر والبر على سكان قطاع غزة أصحاب الأرض، التي أسفرت عن قتل آلاف الأبرياء، لم تصف العديد من الدول هذا العدوان الصهيوني بأنه إرهاب، بل اعتبرته حقاً مشروعاً في الرد على هجوم «حماس» في 7 أكتوبر.
هذه الازدواجية في المعايير التي تؤدي إلى قلب الحقائق وتزييف الواقع، تكشف عن الحاجة الملحة لضرورة وضع ضوابط حاكمة لمعجم مصطلحات الإرهاب.
ضوابط حاكمة
ولضبط معجم مصطلحات الإرهاب، ينبغي أن يتم الاتفاق على تعريف واضح ودقيق لمعنى الإرهاب، والاتفاق على عناصر محددة لما يعد إرهاباً من عدمه، بالإضافة لتحديد ضوابط دقيقة لاستخدام هذا المصطلح، بما يساعد في توليد الأفكار وتشكيل التصورات والمفاهيم على نحو سليم.
كما أنه يساهم في حماية الباحثين والمتخصصين في المجالات المتعلقة بقضايا الإعلام؛ مثل السياسة والقانون والعلاقات الدولية، من الوقوع في المغالطات الخاصة بتلك المصطلحات بتحريفها أو التلاعُب بها.
وإلى جانب ذلك يساعد التعريف الدقيق لمصطلح الإرهاب في تحقيق أهداف أكثر عمقاً في العديد من مجالات الحياة الإنسانية، كالاستقرار والأمن والسلام والعدالة وحقوق الإنسان، والتربية الفكرية والثقافية للشباب، ونشر ثقافة السلام بين الأمم والشعوب، والتأثير في مكانة الدول وكرامتها وعلاقتها بالأطراف الأخرى في المنظومة الدولية.
وفي إطار مواجهة حالة الفوضى والغموض في معاني الكثير من مصطلحات الإرهاب المتداولة ووضع ضوابط حاكمة لمعجم مصطلحات الإرهاب، برزت مؤخراً بعض المساعي والجهود الرامية لرصد هذه المصطلحات وجمعها وحصرها في إصدار مستقل، ثم تعريفها وتوضيح المقصود بها، وذلك بهدف مواجهة الإشكالات والتحديات الناجمة عن الفوضى والضبابية في تفسير تلك المصطلحات والمفاهيم وتوظيفها.
ويسعى القائمون على هذه الجهود إلى أن يكون المعجم مرجعاً معتمداً لدى المؤسسات البحثية الإعلامية وغيرها؛ بهدف توحيد دلالة هذه المصطلحات، والإسهام في إزالة الاضطراب الحاصل عند استعمال المصطلحات الخاصة بالظاهرة الإرهابية بشكل عام، ومصطلحات المجال الإعلامي العربي بشكل خاص.
يذكر أن معاجم اللغة العربية القديمة لم تذكر كلمة إرهاب، لكن مجمع اللغة العربية في القاهرة، قد أقر «الإرهاب» ككلمة حديثة في اللغة العربية وأساسها «رهب»؛ أي خاف، وكلمة إرهاب هي مصدر الفعل «أرهب»، كما عرف مجمع اللغة العربية في معجمه الوسيط «الإرهابيين» بأنهم الأشخاص الذين يسلكون سبيل العنف والإرهاب من أجل تحقيق أهداف سياسية.
وعرّف المجمع الفقهي الإسلامي بجدة في المملكة العربية السعودية الإرهاب بأنه العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغياً على الإنسان في دينه، أو دمه أو عرضه أو عقله، أو مآله، ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد، والقتل بغير حق، وما يتصل بصور الحرابة، وإخافة السبيل، وقطع الطريق، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد تنفيذًا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر.
ويعرف الإرهاب لغة بأنه «الترويع» وإفقاد الأمن بمعناه الأوسع بهدف تحقيق منافع معينة، بينما يعرف الإرهاب دولياً بأنه اعتداء يصل إلى حد العمل الإجرامي، ولكن المستهدف بهذا الإرهاب وطبيعته السياسية هو الذي يفرق في الطبيعة القانونية لهذا العمل بين الجريمة السياسية والجريمة الإرهابية.