مع دخول الحرب في السودان شهرها الحادي عشر، تبدو السياسة الأمريكية مرتبكة بشكل كبير في إيجاد وصفة مناسبة للتعامل مع الوضع السوداني الراهن في ظل استمرار الحرب، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تعول كثيراً واستثمرت سياسياً ودبلوماسياً في دعم الانتقال الديمقراطي داخل السودان، مثل دعم الوصول لاتفاق سياسي بعد قرارات رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان، في أكتوبر 2021م.
الجديد على الساحة الأمريكية هو ظهور مجموعة من التحركات، أبرزها التحركات في داخل الكونغرس للضغط على الإدارة الأمريكية للرئيس جو بايدن للقيام بخطوات ملموسة للتعامل مع الأوضاع المتفاقمة في البلاد نتيجة استمرار الحرب دون أفق واضح لإنهائها، في ظل تزايد أخطار توسعها، وتمددها بما يهدد الاستقرار الهش في الجوار السوداني، مع استمرار لتدخلات خارجية واضحة في الشأن السوداني، تظللها مصالح متضاربة ومحاور متشاكسة.
نسعى من خلال هذا المقال لتدارس التحركات الأمريكية الأخيرة على ساحة النزاع في السودان، وحجم هذه التحركات، وإلى أي مدى ستفلح في إحداث اختراق قد يفضي في الوصول لصيغة مقبولة تؤدي إلى إيقاف الحرب، وتسريع الوصول لاتفاق سلام شامل.
تحركات الكونغرس.. مشروع قرار
قدّم مشروع القرار بشأن الوضع في السودان لمنضدة الكونغرس كل من رئيس لجنة العلاقات الخارجية بينجامين كاردن، وكبير الجمهوريين فيها جيم ريش، مع مجموعة من المشرعين من الحزبين، مستشهدين بالعديد من التقارير.
يقول المشروع، في نصه: إن مجلس الشيوخ «يدين الفظائع، بما فيها تلك التي تصل إلى مستوى الإبادة الجماعية، التي ترتكبها «قوات الدعم السريع» والمليشيات المتحالفة معها ضد قبيلة المساليت وغيرها من المجموعات العرقية في دارفور، وكشف مشروع القرار أن «قوات الدعم السريع» قامت «باعتقالات خارج نطاق القضاء، والتعذيب والضرب، والابتزاز، والعنف الجنسي والجنساني، والاغتصاب الجماعي، والاستعباد الجنسي، والتهجير القسري»(1).
ودعا مشروع القرار الذي قد يمهد لخطوات لاحقة من الإدارة، إلى التوسط لوقف شامل لإطلاق النار وإنهاء العنف والفظائع التي ترتكب، وحث الإدارة الأمريكية على اتخاذ خطوات عاجلة للعمل مع المجتمع الدولي للتوصل إلى وسائل لحماية المدنيين «بما في ذلك إنشاء ممرات إنسانية ومناطق آمنة»، وتفعيل قرار مجلس الأمن المتعلق بحظر إرسال الأسلحة إلى دارفور، كما اقترح تبني خطوات وإجراءات محددة لرصد الانتهاكات والجرائم بغرض المحاسبة.
ودعا مشروع القرار الذي يحتمل أن يصبح قانوناً الإدارة الأمريكية لدعم التوثيق الدوري للفظائع وممارسات الإبادة الجماعية المتعلقة بالسودان، ودعم المحاكم والتحقيقات الجنائية الدولية لمحاسبة «قوات الدعم السريع» التي أشار إلى دور قائدها والمليشيات المتحالفة معها، كما دعا مجموعة المهام الخاصة المعنية بمنع الفظائع «لإجراء مراجعة شاملة لجهودها لمنع، وتحليل، والرد على الفظائع في السودان بالتوافق مع إستراتيجية الولايات المتحدة لعام 2022م للتوقع، والمنع، والرد على الفظائع»(2).
وظهر تحرك هذه المجموعة من أعضاء الكونغرس المهتمين بالسودان على خلفية انتقادات ظلت توجه لإدارة بايدن أنها لا تعطي الأزمة السودانية اهتماماً كافياً، وأن الرئيس لا يبدي تفاعلاً ملموساً أو اهتماماً جدياً بالوضع برغم خطورته؛ فقدم هؤلاء الأعضاء، الأسبوع الماضي، مشروع قرار أشد في مضمونه من قرارات سابقة، صنف ممارسات «الدعم السريع» في دارفور ضد مجموعات عرقية بعينها بأنها «إبادة جماعية»، وشبهها بما حدث في الإقليم السوداني بين عامي 2003 و2004م على أيدي مليشيا «الجنجويد»؛ وهو ما دفع الكونغرس وإدارة الرئيس الأسبق جورج بوش آنذاك لإعلان الإبادة الجماعية في دارفور، وما تبع ذلك من خطوات وإجراءات عقابية قامت بها الإدارة.
جولة مولي في
على صعيد التحركات الأمريكية الأخرى، تنشط مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية مولي في بالمنطقة، وقد جددت حرص بلادها على إيجاد حل سلمي للصراع في السودان، وقالت في مؤتمر صحفي عقدته عبر الوسائط الإلكترونية: إن الولايات المتحدة مهتمة للغاية بقضية السودان، وتعمل عبر عدة طرق مع شركاء آخرين للتوصل إلى سلام مستدام، لكنها نفت علمها بعزم الإدارة الأمريكية تعيين مبعوث خاص للسودان(3).
وحضرت مولي في اجتماعات الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا هذه الأيام، وتبحث عن مسار جديد لإنقاذ عمليات التفاوض التي فشلت جميعها تحت الرعاية الأمريكية، سواء منبر جدة أو منبر «إيقاد»، كما التقت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية وفد تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وتناولت معه تطورات الأوضاع في السودان، ومساعي وجهود إنهاء الحرب وتحقيق السلام، وعمل تنسيقية «تقدم» وخططها القادمة(4).
أمريكا والسودان.. ملامح المشهد القادم
من تحركات الكونغرس الأخيرة وجولة مولي في، قد تتجه الولايات المتحدة لتغيير سياسة التعاطي البارد مع التطورات العنيفة بالسودان قياساً على مواقفها تجاه الصراعات والنزاعات الأخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا خلال العقد الأخير(5)، وأن تجترح طرقاً جديدة للتعامل بحنكة في إدارة الملف السوداني، فهي صاحبة النفوذ في المؤسسات الدولية -الاقتصادية والمالية والسياسية منها- لما لها من إرث مؤسسي، ويجب أن تتعلم «الخارجية» الأمريكية من أخطاء سالفاتها في العراق وأفغانستان، فالتعويل على جماعات تفتقر إلى الرصيد الأدبي والفكري والتاريخي والاجتماعي يعيق من إمكانية النهضة، بل يحدث نكسة من شأنها أن تدخل البلاد في غياهب الاستبداد والفساد(6).
يبدو أن الولايات المتحدة تفتقد لأوراق الضغط الكافية على الجيش السوداني الذى يتسلح من دول تعتبر عدوة للولايات المتحدة؛ مثل روسيا وإيران مؤخراً كذلك الصين، كما لا توجد خطة طريق أو خطة عمل واضحة للإدارة الأمريكية.
والمعلومات التي تبني عليها الإدارة قراراتها تبدو أنها معلومات يشوبها كثير من عدم الدقة وتخدم مصالح المجموعات المقربة من الإدارة الأمريكية داخل السودان أكثر من حماية مصالح الولايات المتحدة طويلة الأمد؛ مما يحرم صناع القرار هناك من الفهم الدقيق لما يحدث وبناء سياسات وتدخلات ذات أثر فعال(7).
ممارسة الضغوط في الساحة السودانية هي السياسة المفضلة لأمريكا من خلال أوراق مختلفة، مثل العقوبات والمحاسبة عن الانتهاكات والفظائع التي ارتكبت خلال الحرب، لكن يظل المحدد الرئيس للتعاطي الأمريكي مع تطورات الساحة السودانية مرتبطاً بحدود انعكاساته على مصالحها، حيث إن السياسة التي تتبناها واشنطن حيال الصراع في السودان خلال الأشهر القادمة ربما تبدو مرشحة للتغيير -بقدر ما- في ضوء تغير القيادة في البيت الأبيض كنتيجة للسباق الرئاسي 2024م.
___________________________
(1) رنا أبتر، مشروع قرار في الكونغرس يتهم «الدعم السريع» بارتكاب جرائم إبادة، صحيفة الشرق الأوسط، 13 فبراير 2024، الرابط: https://shorturl.at/ginBZ.
(2) عثمان مرغني، ماذا تخطط أمريكا للسودان؟ الشرق الأوسط، 15 فبراير 2024م، الرابط: https://shorturl.at/uwHP1.
(3) مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية: نعمل على تغيير المسار الطائش والمدمر للمتحاربين في السودان، راديو دبنقا، 30/ 1/ 2024م، الرابط: https://shorturl.at/elsux.
(3) وفد من «تقدم» يلتقي مساعدة وزير الخارجية الأمريكية مولي في باديس أبابا، راديو دبنقا، 15/ 2/ 2014م، الرابط: https://shorturl.at/dlEFJ.
(6) مها علام، انخراط محسوب: واشنطن والتطورات العنيفة في السودان، المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، 22/ 5/ 2023م، الرابط: https://ecss.com.eg/34211.
(4) الوليد آدم مادبو، تمرد أم انهيار منظومة سياسية وعسكرية، صحيفة التغيير الإلكترونية، 15/ 2/ 2024م، الرابط: https://shorturl.at/orsAD.
(5) عثمان نواي، السياسة الأمريكية نحو السودان: إلى أين تقود؟، صحيفة الراكوبة، 16 فبراير 2024م، الرابط: https://shorturl.at/qKSVZ.