الآن أنت مضطر للخروج من بيتك الآمن الدافئ مرغماً، ليس للعمل المنتظم كل صباح، وإنما تخرج وتلاحقك أصوات الرصاص والمدافع والطائرات الزنانة، تحمل بين يديك صغارك لست تدري إن كنت حملتهم جميعاً، أم تركت بعضهم تحت الركام المتساقط فوق الرؤوس فعميت معه الأعين وذهلت معه العقول، ترافقك أمهم أم أنها ظلت هناك مع من تبقوا تحت أطلال بيت العائلة العريق الذي تسكنه منذ سنوات لا عدد لها؟
تخيل وأنت تركض بساحة حرب عالمية تدور رحاها فوق أرضك المحدودة وقد كانت باتساع الكون يوماً، وبعمق كافة الشرائع التي توقفت عندها، وبموضع أقدام أنبياء الله والمرسلين الذين مروا بها، تركض نحو اللاشيء، فكل الأماكن مستهدفة، وكل الاتجاهات مستهدفة، وكل دابة تجري على أرضها ليست آمنة طالما أنها قررت البقاء ولو على هيئة جثمان ممزق محترق فوق تلك الأرض المحاربة كل قطعة منه في اتجاه؛ اتجاه القبلة الأولى، واتجاه القبلة الثانية، واتجاه أعراب لا يتحركون، وغرب يشتهي المزيد!
تركض نحو المجهول لا يهم في أي اتجاه تسير، فالوصول في النهاية سيكون لهدف معلوم لن يمثل فارقاً مكانه، خيمة خالية من كل ما يقيم أود الحياة، هل تذكرت أن تحمل بعض الأغطية؟ بعض الأطعمة؟ بعض الماء؟ بعض الملابس التي تحتاجها لتجنب برد شتاء غزة؟ هل تذكرت أن تحمل بعض صور السابقين ممن ماتوا على هذه الأرض ورفضوا الخضوع فصاروا في قائمة الشهداء الطويلة مفتوحة القوس؟ بعض الكتب والمناهج الدراسية؟ هل تذكرت حذاءك، أم سرت نحو الموت المحقق حافي القدمين؟ هل تذكرت أن تحمل بين يديك إلى جانب أبنائك بعض الذكريات؟
دور غزة وبيوتها
لمن لا يعلم طبيعة الحياة في مدينة غزة الأبية قبل «طوفان الأقصى» المجيدة رغم كثرة الحروب والاستعداد لها في أي وقت، كانوا وما زالوا أعزة مستوري الحال، منازل متوسطة رأينا جانباً منها على شاشات التلفاز، البيوت بالداخل نظيفة، مرتبة، دافئة، تحوي الحد فوق المتوسط من إمكانات الحياة الحديثة، الأغطية التي تستخدم اليوم لتغطية الجثامين أغطية شبه جديدة ذات ألوان رقيقة، نظيفة حتى لو بدا بعضها قديماً، الأثاث والستر المزينة للجدران تحمل رقة وذوقاً عالياً، لا يخلو بيت من ألعاب الأطفال وآثار شقاوتهم، أدوات الطبخ حديثة، وخزين البيت يكفي ربما شهراً من دقيق الخبز والبقوليات ولوازم الحياة البسيطة المرضية، وفي حدود الحصار القاتل على المدينة المرابطة، فرش المنزل متناسقة وتوحي بالدفء الأسري، وأن بتلك البيوت نساء غير عادية في مستوى الترتيب والنظام والتأقلم مع كافة الظروف الاقتصادية المتقلبة التي تجبرهم عليها رواتب «الأونروا» غير المنتظمة.
أما عن الصور المعلقة على الجدران، فقلما تجد بيتاً لا يحمل العديد من الصور، بين شهيد وأسير لدى سلطات الاحتلال الغاشم، يتفاخرون بعدد الصور المعلقة على كل جدار في بيت الأسرة!
في كل بيت مكتبة، مصاحف، كتب التراث، كتب الجهاد، كتب التاريخ، كتب علمية في كافة المجالات العلمية، فالعلم في غزة مقدس، نسبة الأمية صفر بالمائة، صور شهادات الماجستير والدكتوراة بجوار صور الشهداء، هنا شعب نشيط، صبور، طموح، يحب الحياة، ملابسهم بسيطة على فخامتها، تخال وأنت تتحدث إلى أحدهم على ضعف حاله أنه من علية القوم، وكلهم علية للقوم.
أسواق غزة تنبض بالحياة حتى حين غزا الكساد العالم، تتراص البضاعة بصورة تضاهي أرقى مولات المدن الكبرى، قد يباغتهم القصف في أي لحظة، لكنهم يحرصون على النظام وكأنهم لا يعرفون الفوضى أبداً!
وأما أعراسها فهي هنا كثيرة، لا شيء يوقف عجلة الحياة في غزة، والحب هنا مقدس، الحب هنا للأرض والعرض والتراب والرباط والإنجاب، هنا ينجبون أطفالهم للحياة ما تيسرت، وللشهادة ما استطاعوا إليها سبيلاً، قالت أستاذة الجامعة التي أنجبت 12 طفلاً، أنجبتهم نصفهم لي ونصفهم لفلسطين، وكلنا لفلسطين!
نسبة العنوسة في فلسطين عامة وفي غزة خاصة أقل نسبة عنوسة في الوطن العربي كله؛ حيث بلغت 7%، في حين بلغت 85% في لبنان لتليه سورية فالمغرب فالإمارات فالمملكة العربية السعودية فمصر، في غزة يحملون بعضهم بعضاً، ويرضيهم القليل الذي يجبرك أن تكون معه راضياً.
خيام غزة وضمير العالم الغائب
في مدينة لا يتجاوز عدد سكانها ربع مليون إنسان، تلبي احتياجاتهم بالكاد خاصة بعد أن منعت الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى إمداد «الأونروا» بالقليل الذي يحفظ حياة هؤلاء بوجبة واحدة يومياً أو أقل لكل أسرة، صار تعداد سكانها فجأة مليوناً وثلث مليون إنسان، حسب إحصاءات الأمم المتحدة، أطفال ونساء وشيوخ ورجال بلا عمل، بلا دخل، بلا بضائع يشترونها إن كانوا من الأساس يملكون أثمانها الباهظة لندرتها في رفح المكتظة بشعب يتعرض لتغريبة جديدة، ونكبة ثانية على مرأى ومسمع من العالم الذي كنا نحسبه حراً.
واكتظت الشوارع بالنازحين القادمين جبراً من أنحاء غزة، عائلات معظمها غير مكتمل، آباء يبحثون عن أبنائهم، أمهات يبكين بعض أبنائهن، أطفال بلا عوائل وقد فقدوهم جميعاً في إحدى غارات القصف المتوحش على المدنيين العزل، الشقق والبيوت تحوي العشرات من هؤلاء النازحين؛ الشقة الواحدة تحوي أكثر من 40 نفساً كلهم من النساء والأطفال، وأما الرجال والشباب فيبيتون لياليهم بجوار الجدر يحتمون فيها من برد وقصف وجوع، وأما العائلة المحظوظة فتلك التي وجدت مكاناً بمدرسة، أو بجوار مستشفى، أو استطاعت أن تحصل على خيمة مستقلة بين آلاف الخيام المنتشرة على طول الشوارع الرئيسة فيصعب السير بينها، خيمة قماشية لا تغني من أمطار الشتاء أو من برده الشديد ليلاً، وإن حالفك الحظ أكثر، فسوف تحصل على بعض الأكياس البلاستيكية لتغلف بها خيمتك لتحصل على بعض الدفء، وفراش رقيق يفصل بينكم وبين صلادة الأرض الباردة.
وتبدع الأم الفلسطينية في تنظيم الخيمة وتنظيفها وترتيبها، فتجد الوسائد المحشوة بالملابس القديمة لينام عليها الصغار، ينامون جوعى، فكتف الأب لم يستطع حمل المزيد من الأمتعة في رحلة الهروب والنزوح.
في الصباح، يخرج الأب ليجلب الطعام، وأنى له ذلك، يخرج الأطفال حاملين الأوعية الفارغة عسى أن يساعدهم القدر في الحصول على وجبة ساخنة تقوم بتوزيعها «الأونروا»، لكن المنظمة لم تعد قادرة على تلبية احتياجات مئات الآلاف من النازحين ببلادهم، تخرج الأم وهي العزيزة لتقف في طابور طويل يوزعون فيه دقيق القمح لتصنع لأبنائها رغيفاً، فتلاحقها رصاصات البغي قتلاً لتحصد أرواح الأبرياء!
أن تسكن خيمة لا تسترك من عين أو برد فضلاً عن رصاصة أو صاروخ في غزة وأنت العزيز، لمجرد أنهم يريدون العيش والموت في هذه الأرض وهم أصحابها، لهو أقسى ما تتحمله نفس بشرية.
ألم يأن الأوان أن يعود هؤلاء الأعزة لديارهم؟ ألم يأن الأوان أن يعيش هؤلاء الأطفال في بيوت ذات سقف وجدران طالما آوتهم واستوعبت أحلامهم وأمنياتهم وحبهم للحياة؟ ألم يأن الأوان أن يكونوا كبقية أطفال العالم ينامون على صوت أمهاتهم وليس على صوت الرصاص ورائحة الموت في كل مكان؟ ألم يأن الأوان أن تستيقظ الإنسانية وتفيق قبل أن يدفع الجميع ثمن قتل مدينة بمن فيها وما فيها؟