هناك تحديات كثيرة تواجه وجود واستمرار الدولة السودانية كدولة فاعلة عربية وأفريقية، لما تملكه من ثروات طائلة تشكل وفقًا لتقارير الأمم المتحدة المخزون الرابع للغذاء في العالم.
والسودان يواجه تحديات متعددة، ومتجددة، تطال تركيبته السكانية والقبلية، ونخبته الثقافية، والسياسية، والأدوار التخريبية التي قام ويقوم بها الاستعمار في شكله القديم والحديث، وتحديات خاصة بهوية السودان، التي تتنازعها ثقافات لا دينية قديمًا، وعلمانية الآن، وإسلامية وعربية وأفريقية.
والكثير من التحديات التي أفشلت صناع القرار منذ استقلال السودان في يناير 1956م، في الوصول بتلك الثروات الهائلة إلى دولة حديثة أو ناهضة، أو حتى دولة مستقرة، تكتفي بما تنتجه، وتعتمد على ثرواتها.
ويكفي الإشارة إلى أن ثورة الإنقاذ التي أطلقها الثنائي الترابي، البشير، في 30 يونيو 1989م، كانت أحد أسبابها غياب الدولة السودانية بشكل شبه كامل، واعتمادها على 80% من مواردها على مواد الإغاثة من الخارج.
ونستعرض هنا تلك التحديات القديمة والحديثة، التي تهدد الدولة السودانية في وجودها ونهضتها، ومن أبرز هذه التحديات العنصرية، التي تشكل ثقافة معادية لوجود السودان نفسه، وساهمت بشكل كبير في إشعال الصراعات داخل البلاد، وتسهيل تحقيق أطماع دول الاستعمار الجديد في ثروات ومقدرات السودان.
بريطانيا.. وصناعة العنصرية
حرص الاحتلال البريطاني ومخابراته خلال فترة حكم السودان، إلى إحداث شروخات سياسية واجتماعية داخل المجتمع السوداني؛ تتمثل في ضرب القبائل السودانية بعضها بعضاً، والمجتمع السوداني شماله بجنوبه.
وكانت الاستخبارات البريطانية تحرص فيما يخص علاقة القبائل بعضها بعضاً؛ على أن تفرق بين ما يسمى بالقبائل العربية، والقبائل الأفريقية، كما حرصت على أن تزرع بذرة الفتنة بين هذا المكون السوداني العريق؛ بزرع مزاعم حول سيطرة أبناء العرب على السلطة والثروة في السودان.
ونجح الاستعمار البريطاني خلال حكمه للسودان في وقف كل أشكال التنمية أو حتى الربط بين الأقاليم السودانية المختلفة، فعمل على عزل الأطراف السودانية بعضها من بعض، حيث لم يعمل طوال تاريخه على إنشاء الطرق التي تربط بين إقليم دارفور ذي الأغلبية الأفريقية، وبقية مكونات السودان الأخرى.
وظلت هذه المنطقة التي تمثل ثلث السودان، ومعظم ثرواته، منفصلة بشكل كبير بريًا، وبالطبع دون وسائل أخرى عن المركز في الخرطوم، وكان الاستعمار البريطاني يستخدم سياسة نشر الشائعات للتفرقة بين القبائل لتسهيل حكمه للبلاد، وترسيخ ثقافة العداء بين كل ما هو عربي وأفريقي في كل السودان، وهو ما صنع حواجز نفسية وثقافية بين المكون السوداني في الأطراف والمركز من ناحية، وقيادة القبيلة وبقية أفرادها من ناحية أخرى، حيث يتعالى ويتفاخر الكل ضد الكل.
تأسيس الفتنة
ظلت بذور الفتنة التي زرعها الاستعمار البريطاني بين القبائل قائمة على تراث شديد العداء، وحكي يتناوله ويتواصل فيه الأجداد مع الأولاد، والأحفاد؛ لزرع ما يسمى بالثأر القائم على التفاخر والتمايز بين كل هذه القبائل، وأدت النساء وخاصة ما يطلق عليهن بـ«الحكمات» دورًا كبيرًا في إذكاء هذا الصراع، حيث تقوم النساء اللواتي يحفظن شعرًا عن الفخر والإقدام والشجاعة، بمخاطبة الجنود أو المنتسبين لهذه القبائل؛ لتحميسهم وتحقير الآخر، والتقليل من شأنه، مما يذكي روح الانتقام حتى يقوموا بالهجوم على القبائل الأخرى وأخذ الثأر، أو الاستيلاء على الثروات.
وبالرغم من مضي أكثر من 60 عامًا على استقلال السودان، فإننا نشهد استمرارًا لهذا الصراع العنصري، الذي تطور ليقع تحت طائلة القانون الدولي بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في مناطق النزاع المختلفة سواء كانت في دارفور، أو النيل الأزرق، أو حتى في العاصمة الخرطوم مؤخرًا، مع ملاحظة أن كل أعمال القتل والإبادة تتم بين أفراد ينتمون إلى دين واحد وهو الإسلام، ومذهب واحد وهو المالكية، وتجمعهم أيضًا طرق صوفية منتشرة في كل ربوع البلاد.
وفي تأسيس مبكر للعنصرية، وضعت الإدارة البريطانية أسسًا قانونية تضمن أن تقف العنصرية وراء كل النزاعات الأهلية والقبلية حتى يومنا هذا، حيث أنشأت ما يسمى بالإدارات الأهلية كي تكون مساعدًا للإنجليز في حكم أقاليم السودان المختلفة، والإدارات الأهلية عبارة عن سلطة محلية من الشيوخ، والعمد، والنظار، وزعماء القبائل، تقوم بالدور المحلي في إدارة البلاد بالتعاون مع الحاكم البريطاني، أو مأمور المنطقة في ذلك الوقت، ومن ضمن شروط تأسيس هذه الإدارات التي منحت كميزات لهذه الرموز التي تعمل مع الاستعمار، أن تكون لهم السيادة المطلقة على أرضهم، ولا يسمح بتملك الأراضي للقبائل الأخرى الوافدة من مناطق سودانية، وهو ما سمح بتمدد الفرقة والعنصرية بين القبائل التي تعتبر نفسها أسيادًا بقربها من الإنجليز، وتلك القبائل التي لا تتشكل منها تلك الإدارات، فلا يكون لها نصيب من الحضور والسيادة، وينظر إليها نظرة دونية، ولا يسمح لهم بالزواج من بنات القبائل ذات السيادة المزعومة، أو حضور مجالسهم الخاصة.
تقسيم مبكر
وكان من ضمن ما أسسه الاستعمار أن يكون هناك ما يسمى بالقبائل الأصيلة، والقبائل التبع أو الضيوف، ووفقًا لذلك التشريع أو تلك القرارات التي أصدرتها الإدارة البريطانية، فإن جميع القبائل التي تأتي إلى مناطق داخل السودان لم تكن موجودة فيها بالأصل لا يحق لها أن تمتلك الأراضي، أو تشكل إدارات، أو تكون لها نظارات؛ وهو ما يعني أن يظلوا ضيوفًا على أصحاب الأرض، والسلطة مهما طال الزمن.
وقد أنتج هذا القانون الغريب مصائب كبيرة تمثلت في صراعات بين قبائل عاشت في هذه المناطق مئات السنين، واعتبرت ضيوفًا ودرجة ثانية في المكانة والحضور، بزعم أنها جاءت متأخرة وفقًا لتقييم نظار ومشايخ تلك الإدارات بعد قبائلها.
ومن بين المظاهر الأكثر وضوحًا لتلك العنصرية، ما حدث في النيل الأزرق في أغسطس 2022م، حيث رفضت جميع قبال النيل الأزرق من البرتا والأنقسنا وقبائل الفونج، الموافقة على إقامة نظارات لأبناء قبيلة الهوسا، برغم أنهم يعيشون بالولاية منذ مئات السنين، بزعم أنهم ليسوا من القبائل الأصيلة وفقاً لتفسير قانون الإدارة الأهلية الذي أصدره الاحتلال البريطاني عام 1922م.
وما شهده الصراع من قتل على الهوية، وحرق للناس في بيوتهم، ونهب للثروات، يعود إلى تلك الكراهية والشعور بالتمايز الذي تأصل ثقافيًا وتاريخيًا بين من يعتبرون أنفسهم أصلاء وأسياداً، ومن جاؤوا للبلاد تحت مظلة الدين الواحد.
ولم يتوقف شكل الصراع بين القبائل على الجانب القانوني فقط، أي أنه لم يأخذ صور التقاضي أمام المحاكم، أو تقديم الشكاوى للسلطات؛ بل انتصرت العنصرية على هذه الجوانب المشروعة لتظهر في شكل جرائم الحرب الموسعة التي عكست توافق قبائل الفونج والهمج على إبادة قبيلة الهوسا في النيل الأزرق.
وتناست تلك القبائل المشتركات الدينية، والأخلاقية، والاجتماعية، المستمرة والممتدة على طوال مئات السنين، وظهرت على السطح كراهية تسلحت بالعنصرية لتتجاوز كل هذه الروابط.
وقد أظهر الصراع غياب دور المثقفين والمفكرين والفنانين عن التفاعل مع هذا المنتج الاستعماري ومحاولة التصدي له، وإزالته من أدمغة من يؤمنون به، خاصة أن العنصرية تهوي بالبلاد إلى ما قبل التاريخ.