ثريا العبد
أستطيع القول إنني فتاة عادية تماما، لها طموحات مشروعة. جئت من قرية ريفية فقيرة إلى الجامعة، عشتُ في المدينة الجامعية مقابل اشتراك شهري يبلغ خمسة جنيهات تقريبا، أدفعها من مكافأة التفوق التي حصلت عليها لتفوقي في الثانوية العامة. الحياة في المدينة الجامعية أفضل من الحياة في بيتنا الريفي الذي يغص بالأطفال والنساء والرجال. أهلي يعملون جميعا حول فدانين مستأجرين، وجاموسة وبقرة وحمار. نجتمع حول الطبلية في المساء، فنأكل ما طبخناه من زراعات الحقل: باذنجان، ملوخية، حميض، رجلة، بطاطس، بامية، إلى جانب بعض الأرز المسلوق، أو المدسوس، ويمكن أن يكون هناك بعض الخضروات مثل السريس أو الفجل أو الجرجير أو الجلاوين، أو سلاطة الطماطم، البيض يؤكل في المناسبات، نصف بيضة للشخص الواحد. اللحم تؤكل في المواسم فقط، وعادة تكون دجاجة أو بطة تقسم بصورة دقيقة، وشوربة الدجاجة أو البطة تشيع الإحساس بتناول اللحم مهما كان حجمه ضئيلا. المهم أن يحصل كل فرد على شيء ينتمي إلى اللحم.. يتم توزيع الشاي في الأكواب الصغيرة على من يرغب.. وينصرف معظم العائلة إلى النوم. الحياة بقريتنا ساكنة راكدة باستثناء بيت واحد لديه جهاز تلفزيون أبيض وأسود، يسهر صاحبه مع أصدقائه حتى منتصف الليل، وينامون بعد مشاهدة المسلسل، ونشرة الأخبار وبعض البرامج.
تلهبني صور النساء على الشاشة وفي المجلات والصحف، أزياؤهن مثيرة، ومنظر الجواهر والحلي ساطع على صدورهن ومعاصمهن ومدلى من آذانهن، أو بارز من شعورهن، أقوال النساء عن تحرير المرأة، وحقها في التساوي رأسا برأس مع الرجال، لتقود قطارا، وتراما، وحافلة، وشاحنة تنقل إلي نشوة لا أعرف مصدرها.. تبهرني حياة النساء المتحررات، وخاصة في مجال الصحافة حيث تصبح المرأة رئيسا للتحرير، وأتمنى أن أكون واحدة مثلهن. كيف الطريق إلى رئاسة التحرير؟
انشغلت عن المحاسبة، ورحت أقرأ الصحف والمجلات وبعض الكتب وأتابع، وأحضر الندوات، وأشارك بالأسئلة حين يأتـي كاتب كبير، أو رئيس تحرير، تعرفت على كثير من الأدباء الشبان، تبادلت معهم الكتب والدواوين. صرت معروفة في النادي الثقافي، خاصة بعد أن أتيح لي أن أكتب بالقطعة في بعض الصحف والمجلات. سكنت مع إحدى الصديقات في غرفتها، وأسعفتني المكافآت أن أحسّن مظهري الخارجي بعض الشيء، قدمت نماذج من كتاباتي للكبار، فاحتفوا بها، وساعدوني على نشرها في كتاب، وكتبوا عنها، وروّجوا لها عبر الأخبار والمقابلات، وسألت نفسي: لماذا يهتمون بي؟ التفّ حولي الكتاب الشباب، وراحوا يناقشون ويحللون. وأسمع منهم كلاما عن المرأة التقدمية، وإسقاط العقد القديمة، والانطلاق إلى عالم التحرر. صرت اليوم بشكل ما كاتبة مهمة عند الكبار. أقول كاتبة ولا أقول شيئا آخر، فقد صاروا يرونني ضرورة في حياتهم اليومية..
***
ما يكتب في الصحف، ويتردد صداه في الإذاعة والتلفزيون ليس خالصا لوجه الله. وراءه ما وراءه، وخاصة إذا كان في الموضوع أنثى. وأنا الأنثى محور الاهتمام في النادي الثقافي. هناك إناث أخريات، ولكل منهن موضوعها، الذي يختلف عني. يبتعد أو يقترب، الحفاوة بي واضحة وحارة. في الماضي.. سمعت أحد العجائز من الأدباء الخاملين يقول: في العهد الملكي كانت الكلمة توزن بميزان الذهب لأنها كانت تصدر عن موهوبين حقيقيين. قلت في سرّي: “في أيامنا صارت الكلمة طريقا للتجارة والمحاسبة التي ودعتها من أجل الأدب والصحافة”. حفظت في طفولتي آيات عن الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة. يقول الله تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء” (إبراهيم:24- 27).
القوم هنا لا علاقة لهم بالكلمة الطيبة. علاقتهم راسخة بالكلمة الخبيثة. مشغولون بالكلمة التي تقودهم إلى تحقيق أهدافهم. تسمع كلاما كثيرا عن النضال والاشتراكية والقومية والحرية والديمقراطية والتقدمية والثورية والوحدوية… ولا شيء من ذلك يحدث على أرض الواقع. الأهم بالنسبة لهم الاستمتاع في ريش أو إيزيفتش أو أفتر إيت، أو الحرية أو الندوة الثقافية أو زهرة البستان أو التكعيبة أو الحرافيش أو الفيشاوي. بعض صعاليكهم لا يجد غضاضة في فرض نفسه بالسماجة ضيفا ثقيلا على الروّاد الذين يتوسم فيهم امتلاك شيء من النقود؛ ليطلب له وجبة أو شأيا، أو كأسا، أو شيشة! ثم يحكي عن مغامراته العاطفية والنسائية، ويتوّجها بالحديث عن نضالاته المزعومة.
كنت محايدة إزاء الشبان والكبار، أبتسم ابتسامة خفيفة لأرضي الجميع، وكان الكبار يؤثرونني بالدعوة إلى لقاءاتهم التي تضم صفوتهم، نتناول الغداء أو العشاء، في مكان راق أو كافتيريا الصحيفة أو محل شعبي في وسط البلد، ومع ارتفاع الملاعق وامتلاء الكئوس، تظهر الآراء الحقيقية في النظام ورجاله.. على العكس مما تسطره أيديهم في الصفحات الأولى أو صفحات الرأي..
قال نائب رئيس تحرير بصوت شبه هامس:
– بدأ بيع البلد بعد العبور!
نظر إليه الآخرون:
– ومن الذي سيشتريها؟
أخذوا يدورون برءوسهم ليسمعوا الإجابة من نائب رئيس التحرير:
– المشترون عوائل الملوك الأحرار وأتباعهم وصبيانهم. حصلوا أولا على توكيلات الشركات العالمية العابرة وغير العابرة للقارات، والآن سيتحوّلون إلى رموز الاستثمار!
ساد الصمت، فقد خاف الجميع من ذكر الملوك الأحرار. ولكن كاتبا كبيرا طمأنهم:
– سيادة الرئيس أصدر قرار ا يمنح المصريين والأجانب حق الاستثمار في المشروعات المختلفة!
اندمج الضيوف في المشويات والسلاطات وراحوا يفكرون في الانتقال إلى مكان آخر للسهر والشراب الذي يطلق لسانهم في السياسة وصراع المناصب والنميمة حول علاقات الحب في الوسط الصحفي!
***
فتحت حقيبتي، وقدمت لرئيس التحرير قصة قصيرة لنشرها في العدد الأسبوعي. كانت سكرتيرته قد نظرت إليّ بخبث عند الدخول ولم تستوقفني كعادتها مع بقية الداخلين والداخلات، فابتسمت لها ابتسامة ذات مغزى، ووقفت أمام مكتب الرجل الذي غزا الشيب مفرقه، وما كاد يراني حتى تهللت أسارير وجهه، وحين عرف أنني أحمل قصة قصيرة، قال من فوره:
– هيا إلى الكافيتريا لنقرأها معا. فإني أحتاج إلى تناول شطيرة أو شطيرتين طازجتين! وأبتعد قليلا عن المكتب والمقابلات المزعجة.
عرفت أنه يريد أن يتجوّل بين المحررين، ويتأمل ما يشغلهم، ويرقب من بعيد ماذا يقولون، وتعليقاتهم على النظام وتحولاته من الاشتراكية إلى الانفتاح. وفي الوقت نفسه يثبت لهم أنه رجل شعبي وديمقراطي، ومن سلالة المحررين البسطاء أنفسهم.
كنا في شهر رمضان، وكانت الكافيتريا تكتظ بالمحررين والمحررات يتناولون الشطائر ويشربون الشاي والقهوة، والعمال يدورون بين المناضد يوزعون المأكولات والمشروبات. لا أثر هنا للصوم أو رائحة الشهر الكريم.. قليلون هم الذين يصومون في بعض الأقسام، فالصيام والصلاة هنا من علامات الرجعية التي يحاربها المجتمع الاشتراكي. في أحد الأركان القريبة من الكافيتريا، افترش بعض العمال حصيرا وأقاموا صلاة الظهر، وانضم إليهم أحد المحررين الذي يبدو ريفيا مثلي. لم تتوقف حركة الكافيتريا، وانتحى بي رئيس التحرير ركنا قصيا، ومع القهوة والشطائر راح يقرأ ويصحّح بعض الكلمات والعبارات، ويحذف ويضيف، حتى انتهى، فخلع نظارته وأخبرني أن القصة ستظهر في العدد الأسبوعي، ثم أردف:
– بعد النشر سنحتفل بالقصة.
ضحكت، وقلت:
– نحتفل بالقصة أو صاحبة القصة؟
ابتسم قائلا:
– بالاثنين معا.
***
في النادي الثقافي تجمع الأدباء الشبان، وكان بينهم بعض الجنود الأدباء العائدين من معركة العبور، فقال أحدهم:
– من حقنا اليوم أن نفخر بجيشنا المقاتل. وجنودنا المجاهدين الذين أذاقوا العدو معنى الهزيمة. هذه أول مرة نواجههم مواجهة حقيقة دون انسحاب. لم يحققوا نصرا سهلا كعادتهم كل مرة. ولكنهم ذاقوا هزيمة مريرة لم يسبق أن عرفوها. لقد دفعوا ثمن عدوانهم باهظا..
وسكت الشاب قليلا.. ثم أعلن:
– الآن سنقرأ بعض أشعارهم وهم يتحدثون عن هزيمتهم، وقد ترجم قصائدهم متخصص في اللغة العبرية، ويمكن وضعها تحت عنوان “رأينا الموت في كوابيسنا.. “. نتلو عليكم في السطور التالية أيها الجنود الأبطال، بعض النماذج من شعر العدو الذي يعكس الشعور العام بعدما أحدثته الحرب بين جموع أفرادهم، ونرى كيف يتألمون، وشعورهم بعد حرب رمضان/ أكتوبر المجيدة.
ألقى الأديب الشاب حسني منصور قصيدة الشاعر اليهودي “حاييم حيفر ” قصيدته: «رجوناك يا إلهي» المنشورة في إحدى المجلات العسكرية العبرية، وقد صوّر فيها شعور اليهود الغزاة في أثناء الحرب وبعدها، وفيها يقول:
رجوناك يا إلهي
ألا تنزل بنا حربًا ثانية
رجوناك بأعلى أصواتنا
رجوناك في صلواتنا
أدركنا من سنوات الدمار والدم
وثمن الأعداد المتزايدة لقتلانا
رأينا الموت في كوابيسنا
رأيناه يبني رأس جسر إلينا
رأيناه يسير بيننا
رأيناه يهمس بأسمائنا
كهمس الأجهزة اللاسلكية
رأينا عيون نسائنا وقد انطفأ بريقها
رجوناك يا إلهي
ألا يحدث كل هذا
عشنا يا إلهي أربعة حروب كاملة
وتذكرنا كل مآسيها وأحزانها
تذكرنا كل ما كانت تخبئه لنا
سمعنا أنين جرحانا
رأينا وجوههم الرهيبة
رأينا بناتنا في خنادق القيادة
ينامون على أجهزة اللاسلكي
وسمعنا أبناءنا يرسلون للقيادات التقارير المُفجعة
نزلت بنا الحرب بكل قوتها
بكل غضبها
رجوناك يا إلهي ألا يحدث
مع كل دقة من قلوبنا
مع كل نفس في صدورنا
رجوناك، ولكن
ما حدث حدث!
لم ينفعنا الرجاء
لم تسعفنا الصلاة
لم يُجدِ استعطاف الآباء
لم يُجدِ نواح النساء
لم تثمر الآمال
يكفينا ما حدث
فأبعد عنا يا إلهي الخوف والدمار
وكفانا يا إلهي
سئمنا من الحروب.. كفانا يا إلهي حروبًا.
وأنشدت الشاعرة الشابة آمال مصطفى قصيدة الشاعرة اليهودية “إيتان هابير ” المنشورة في صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية 1973:
طابور طويل..
من النقالات والبطاطين الرمادية
الأفق أحمر بلون الدماء، من انفجارات القذائف
وزئير المدافع كالصراخ والعويل
طابور طويل..
من النقالات والبطاطين الرمادية
وأحذية سوداء، تطل من داخلها
أحذية قتلى المدرعات والمدفعية والمشاة والمهندسين
أحذية قتلى المظليين الحمراء
أحذية جديدة لجيل لم يعرف معنى الحرب
وملابس ملطخة بالدماء
وملابس قتلى الطيارين الرمادية
بعد أن ساروا بسرعة الصوت إلى حتفهم
ووجوه شاحبة مطلة
وجوه ضباط كلها رعب
الضباط الكبار مثل الشباب حديثي العهد بالحروب
وعيون أطفأتها نيران الحرب
نقالات وبطاطين رمادية
ساكتة وصامتة هنا في مملكة الصمت
ونحن لا نملك إلا البكاء!
وألقى الشاعر الشاب عصام علي قصيدة «بعد استيعاب الدرس» للشاعر اليهودي “ديدي مانوسي” التي نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية في نوفمبر 1973، وفيها يقول:
أن تتجرأ وتقول الصدق
ستصل حتمًا للحقيقة
والحقيقة أننا بعد حرب الأيام الستة
ولأسباب تتعدد وتتباين
ساد الشعور بيننا بأننا لن نعيد شيئا
ولا حتى شبرًا
لا اليوم ولا الغد
ولا حتى يوم القيامة
وبعد حرب عيد الغفران
وهذا ما يؤلمنا ويوجعنا
أصبحنا مضطرين ألا نكرر أخطاء الماضي
حتى لا نمنع بزوغ شمس السلام.
بعد انتهاء إلقاء الشعر العبري صفّق الأدباء والجنود الأدباء العائدون من المعركة، وأخذ بعضهم يرقص وهو يسمع أنين الغزاة بعد نصر رمضان، وأخذ عدد منهم يغني أغنية العبور الشهيرة التي كتبتها الشاعرة المصرية علية الجعار:
جمعنا كل قوتنا وساندتنا عروبتنا
وسمينا وعدينا وإيد المولى ساعدتنا
وسمينا وعدينا وشقينا طريق النصر
وإيد المولى ساعدتنا ورجعنا ابتسامة مصر
وشقينا طريق النصر … ورجعنا ابتسامة مصر
خيوط الفجر بتنور.. وكل الشعب ببيكر
و في رمضان و بالإيمان أراضينا بتحرر
وسمينا وعدينا وشقينا طريق النصر
وإيد المولى ساعدتنا ورجعنا ابتسامة مصر
وشقينا طريق النصر … ورجعنا ابتسامة مصر
وراح عدد غير قليل يتحدث عن ضرورة الاهتمام بما يكتبه أبناؤنا الجنود عن هذه الحرب العظيمة التي أعادت إلينا كرامتنا واعتبارنا..
***
قال لي ونحن نجلس على طاولة تقرب بيننا في الضوء الخافت، والنيل الهادئ تنعكس على صفحته الساكنة نجوم السماء الصافية:
– آن لنا أن نكمل حبنا.
فوجئت بكلامه المباغت، وكنت أتوقعه منذ أسابيع، ولكنه تأخر ولم يبح به إلا الآن فقط. فسكتّ ولم أتكلم. راح يستحثني على الرد:
– ألم أقل لك إننا سنحتفل بالقصة وصاحبتها معا؟
ذهبت إلى بعيد. لا مكان لي في القرية، أو العمل في محافظتي. حياتي صارت هنا مربوطة بحركة القوم الذين تشغلهم الشهرة والصخب وصراع المناصب، والعائد الأكبر من المرتبات والمكافآت. كان قد وعدني بالتعيين في إحدى الوظائف المهمة بالوزارة المعنية بأفكار الناس. لا عمل حقيقيا، ولكن حضور وانصراف شكلي، وقبض لمرتبات عالية تفوق مرتبات الموظفين العاديين. الوظيفة بالنسبة لي ستكون مخرجا من ضيق المكافآت المحدودة التي تدفعها الصحيفة مقابل قصة أو مقال أو عمود محدود. ستتيح لي الوظيفة انطلاقة غير متوقعة، بالإضافة إلى الترقيات ومكافآت اللجان والزيارات والمؤتمرات والندوات وغيرها، سيكون عالمي مختلفا تماما عن ذي قبل، والرجل جاد فيما يعد، وله علاقات وثيقة بالمسئولين المقربين الذين يحتاجونه لنشر أخبارهم وإنجازاتهم الوهمية، أو بمعنى آخر تلميعهم ونشر صورهم، وكأنه يقول للمسئولين الكبار، هذا كفء للتعيين في المنصب الفلاني، وهذا من أفضل العاملين في مجال كذا ويملأ مكانه الوزاري أو الوظيفي الكبير.. وهكذا. تمنيت منه قبل أن يتكلم عن اكتمال الحب أن يتحدث عن اكتمال الوظيفة، التي أنتظرها بفارغ الصبر على الأقل، لأمتلك سكنا خاصا غير مشترك أعيش فيه براحتي، صحيح أنني تمنيت أن يكون زوجي شابًا قويًا ووسيما، يتناغم مع شبابي وعمري، ولكن الرجل مع أنه كهل، وله زوجة وأولاد فإنه يحقق متطلباتي المادية والمعنوية في عالم النشر والثقافة، على كل حال فإني أتمنى رجلًا يوفر لي حياة زوجية سعيدة.. أجل سعيدة بالمادة والاكتفاء المالي، فأنا أريد رجلًا يملأ حياتي ووجداني بما أريد من لوازم الحياة، ويعلم الجيران أنه لي، ويدق عليّ الباب عند الغداء والعشاء وهو عائد بالليل، وأغلق وراءه الباب في الصباح وهو ذاهب إلى عمله أو مكتبه.. لا أدري كيف أرد عليه وهو يستحثني..
– لماذا لا تتكلمين؟ قلت لك نريد أن نكمل حبنا.
نظرت إليه في الضوء الخافت فوجدته يكاد يلتهمني، وملامح وجهه تقول لي: هيا.. ولكن كيف؟ سألته وكأني أشغله عما يفكر فيه:
– ألم يكتمل حبنا؟
كأنه فوجئ بما أقول، فأجاب:
– إنه لن يكتمل إلا إذا ذهبنا إلى بيت الزوجية.
– ولكنك متزوج ولديك أولاد..
كأن سحابة من نهار الخماسين غطت جبينه، فقال شبه محبط:
– ألم نتكلم في ذلك من قبل؟ أجل! أنا متزوج ولي أولاد وأنت تعلمين ذلك جيدًا، ولكن زوجتي كبرت، ولم تعد تلبي احتياجاتي. أليس من حقي أن أستمتع بالحياة؟
وبعد هنيه، قال:
– الدين شرع لنا أكثر من واحدة.
قلت من فوري:
– شرط العدل،
وحاولت أن أبتسم.. فقال:
– بالتأكيد لا بد من العدل، وأنا لا أحبّ الحرام!
قلت في صوت خفيض:
– وعدتني بوظيفة في الوزارة!
– وأنا عند وعدي. بمجرد أن نكمل حبنا ستكونين “حضرة الموظفة الكبيرة” في الوزارة”.
***
عرفتهما من ملازمة أحدهما الآخر. لم يتخلصا من طبيعتهما الريفية. أحدهما اسمه سعد حلاوة، كانت مناقشاته في الندوات قليلة، ولكنها رصينة، يركز دائما على الجوهر. رأيت فيه شيئا غامضا لا يفصح عن نفسه، ولكنه في كل الأحوال يفرض على الآخرين الاحترام. أما صاحبه مصطفى رضا، فيبدو مثل طفل مدلل، يطيل نظراته نحوي، ولكنه لا يكشف عما يريد، يقترب من المكان الذي أكون فيه ولا يتكلم، يبدو خفيف الوزن بالنسبة إلى صاحبه سعد حلاوة، ولكنه مؤدب وهادئ، لا يشبه الشبان الآخرين في النادي الذين يتميزون بالجرأة والجسارة والاقتحام، وتجاوز الحدود العامة أحيانا.. يوم ذهب السادات إلى القدس ليصنع السلام كما سماه، اصطخب النادي بالآراء. كان هناك من يرى المسألة استسلاما للعدو بغير مقابل، وآخرون رأوا أن المسألة إحراج للعدو وإرغام له على تسليم الأرض المحتلة بعد 67، وحل المشكلة الفلسطينية التي طال أمدها.. سعد كان يعتقد أن اليهود سيضحكون على السادات ويفرغون بالونته من الهواء، ثم يتركونه في العراء دون أن يحصل على شيء ذي بال. أفضل ما سيحصل عليه سيناء منزوعة السلاح والسيادة، وفي المقابل يحصلون على العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، وإنهاء حالة الحرب، وإخراج مصر من المجال العربي..
رأيت أحدهم يجاور سعدا في ركن النادي، ويقول له:
– كلامك كان صحيحا. قطع العرب علاقاتهم مع مصر، وفصلوها من الجامعة العربية، ونقلوها إلى تونس!
نظر إليه سعد نظرة آسفة، ولم يتكلم.
وفي الجريدة كان رئيس التحرير يقف (بالأمر) مع مبادرة الرئيس، ويكشف في مقالاته عن شجاعته، ويردف ذلك بقراره خوض الحرب في رمضان..
قال محمود شعبان رئيس القسم الاقتصادي في جريدة (الضحى العالي)، وهو يجلس في المقهى الشعبي الذي يرتاده المحررون في شارع الصحافة:
– لقد اضطر الرئيس إلى الذهاب إلى القدس لأن الخزينة فارغة، والعرب الذين فاضت أموالهم بأكثر مما لم يحلموا به كانوا مشغولين بالسياحة في العواصم الغربية، وبعضهم أهدى حدائق الحيوان هناك أكثر مما أقرضه لمصر. وقد عاد الرئيس من جولة في بعض البلدان العربية الغنية خالي الوفاض، ولم ترقّ له قلوب وزراء المالية الأثرياء، بل سلطوا عليه بعض السفهاء وهو في جولته ليصفوه بالتسول وطلب الملايين!
رد عليه على أبو شنب رئيس القسم الثقافي بمجلة (الشفق الأحمر):
– هل العرب ملزمون بمساعدتنا؟
– إن مصر تدافع عن العرب جميعا، ويجب أن يتضامنوا في نصرتها.
– لنفترض أن البترول لم يرتفع سعره أضعافا مضاعفة، وبقي على ما هو عليه، أترانا نفرض عليهم مساعدتنا؟
– ولكنهم الآن غارقون في الذهب والعسل، ونحن في حاجة إلى المال لنواجه العدو والبطون الخاوية. لا تنس أن السّادات ذهب إلى القدس بعد مظاهرات الخبز في 1977 التي قادها الشيوعيون انتقاما لطرد المستشارين السوفيات!
– انتهى كل شيء، فقد ألقي الرئيس بتضحيات الشهداء في حجر الإرهابي مناحم بيجين، الذي أرسل طائراته وهو جالس معه في الاسماعيلية ليدمر المفاعل النووي العراقي!
– العار الذي لا يمحوه الدهر هو أن تسعى الأمة أو أحد رجالها أو طائفة منهم لتمكين أيدي العدو من نواصيهم، إما غفلة عن شؤونهم أو رغبة في نفع وقتي.
كنت أتأمل ما يقال، وأقارن بينه وبين آراء سعد حلاوة، فأرى رصانة كلام سعد، ونظرته العميقة، حتى لو خرجت الجموع لتستقبل السادات وهو عائد من القدس ردا عاطفيا على مواقف العرب والمعارضين!
***
كان فارع الطول، باذخ الإيحاء والجاذبية. عيناه خضراوان، مستطيل الوجه، ممتلئ الوجنات والخدود، يميل لون وجهه إلى الحمرة، ويمنحه شعره المختلط بالبياض والسواد هالة من الجمال والوسامة تتمناه أيّ امرأة أو فتاة..
فوجئت به يناديني وأنا أعبر الصالة التي يقع على جانبها مكتبه المستقل بوصفه واحدا من كبار كتاب الجريدة..
– قصصك جميلة. أين تعملين؟
تلعثمت قليلا، هزتني المفاجأة. قلت له بصوت خفيض:
– إني أعمل بالقطعة هنا وفي بعض المجلات!
جعلته الدهشة يصيح:
– غير معقول! غير معقول!
ثم أضاف:
– مثلك يجب أن تكون بين كبار الكتاب.
كان يجاملني بلا ريب، ويبالغ في المجاملة، فمن أنا حتى أكون بين كبار الكتاب؟ إني شابة مبتدئة تشق طريقها في عالم تتصارع فيه المواهب والوسائل.. بالطبع لن أكون من كبار الكتاب في هذه المرحلة، الرجل يبدو مجاملا أكثر من اللازم، ولعله يسعى إلى غرض آخر.. خرم صوته أذني وهو يقول:
– لا بد أن تشربي شيئا في مكتبي.
وراح يفتح الباب ويقول:
– تفضلي..
الكاتب الأسطورة كما يسمونه. “يونس سليم” كاتب الرواية والبورتريهات. يضعه أنصاره فوق كتاب الرواية والقصة القصيرة جميعا، ويرونه جديرا بجائزة نوبل العالمية، وليس بالتقديرية المصرية وحدها. ويدافعون عن سلوكه اليساري المتطرف، وإدمانه للأفيون، وينفون عنه ترك أحد الزعماء الذين تعرضوا للاغتيال عام 1949 ينزف حتى الموت وكان يومها طالب طب شابا في قصر العيني!
إنه جسور مقتحم شرس، تروى عنه حكايات غرامية كثيرة، وخاصة مع جميلات السينما، ومع ذلك فله زوجة فلاحة لا يعرفها أحد ولا تقابل أحدا!
دق الجرس، وطلب المشروب، وراح يتكلم معي في القصص والروايات والنقد والحياة الثقافية، وعندما أحضر العامل ما طلبه من الكافتيريا، انتقل إلى جانبي، واستغربت أنه راح يحدثني عن رئيس التحرير وعلاقته بي. رآني مرة عنده، واستمع إليه وهو يثني على كتابتي، وقد دعاه بعدها إلى وليمة من الولائم التي يقيمها لأصدقائه، وحضرتها كالعادة.. وظننته لم يلتفت إليّ، ولم يهتم بي، وشعرت اليوم أنه يعلم عني كل شيء تقريبا. أعرف عنه بوصفه الكاتب الأسطورة كثيرا من العادات التي اشتهر بها، ومنها شهوته الشديدة للظهور في برامج الإذاعة وخاصة في شهر رمضان حيث كانت الإذاعات المختلفة تكثر من تقديم البرامج القصير ة عقب انطلاق مدفع الإفطار، وتمثل ذروة الاستماع. وكان يونس سليم ضيفا أساسيا في هذه البرامج. كأن المذيعين والمذيعات يقفون طابورا أمام مكتبه لسماع إجاباته التي يرد بها على أسئلتهم، وهي أسئلة خفيفة متنوعة مكررة لا تتعلق بمضامين الكتابة وفنيتها بقدر ما تتعلق بطقوس الكتابة، وما يعجبه من الكتاب، ومن لا يعجبونه، ونحو ذلك.. كان يستدعي المذيعين والمذيعات بالهاتف ويتودّد إليهم ويقدم لهم الهدايا. لا يكاد يخلو برنامج من مشاركته. كان حريصا أن يقول في كل لحظة: أنا هنا! إن لم يفعل ذلك يصاب بالاكتئاب والذبول، كما يقول العارفون به.
كان زحفه إلى جواري وأنا في مكتبه مثيرا للغرابة، فهو يحدثني عن حب وعلاقة وارتباط، وأنني أمثل له حلما لم يكن يتوقع أن يتحقق على الأرض، ورأيته يلمس ساعدي، ثم يميل، ثم يطبق على فمي، قائلا: إني أحبك. أنت حياتي، أنت حلمي، أنت.. وقام من مكانه وراح يضغط بكل ثقله على كياني، ولم أملك من الهول إلا أن أصيح وأصرخ، وأدخل في غيبوبة لم أفق منها إلا في مكتب رئيس التحرير، حيث وجدت ماء على وجهي، وماء أمامي، وحولي عدد من المحررات، والمحررين، والسكرتارية، وبعضهم يهمس لزميله:
– نفد الأفيون، فاختلّ سلوكه!
رد الآخر:
– ألم يعالجه الرئيس مع أنه كان يشتمه في جلساته الخاصة؟
– الرئيس صدره واسع، وكان صديقا له عندما رأس التحرير في صحيفة الثورة.
جاءوا إليّ بالشاي والينسون وبعض المخبوزات المحشوة بالعجوة.. كان رئيس التحرير يهوّن الأمر، ويشير إلى أن الكاتب الأسطورة يعاني من بعض المتاعب الصحية.. ولكنه سيعاقب أمام رئيس مجلس الإدارة بالتأكيد. طلب بعضهم أن أسامحه، وسيأتون به للاعتذار، وسمعت كلاما كثيرا ولكني كنت في واد آخر. انفض الجمع من حولي بعد حين، وقال لي رئيس التحرير:
– سنلتقي الليلة على شاطئ النيل، وننسى ما فعله الكاتب الأسطورة.
ابتلعت ما حدث لي، وأيقنت أن المرأة الوحيدة مهما كابرت، ورفضت أن تكون في رعاية رجل فهي تدفع ثمنا غاليا. مجتمع الذئاب لا يعترف بحيوانات الغابة الضعيفة، وأنا دون لف أو دوران ضعيفة، ووحيدة، وصديقتي التي أشاركها السكن لا تملك لي شيئا فهي ضعيفة ووحيدة مثلي، ولأنني غادرت قريتي فعلي أن أحتمل…!
***
قال رئيس التحرير:
– إن وضعي حساس، وكل ما أحتاجه في هذه المرحلة أن يبقى أمر الزواج سرا من أجل الأولاد!
كان قد خصص لي شقة صغيرة معقولة، ولكنها أفضل من الشقة المشتركة مع صديقتي، قال إنها من شقق الحراسة، وإيجارها زهيد. وقد خصصها باسمي. سعدت للخبر، وقضينا ليلة العرس- نسميه مجازا عرسا- فلم ألبس طرحة بيضاء مثل البنات، ولم يحضر أحد من أهلي، كنت وحدي، والآخرون أصدقاء! في أحد الأماكن السياحية تعشينا معا بعد أن شهد بعضهم عقد القران، وانتقلنا إلى الشقة التي تأثثت بشكل لا بأس به، وفي الصباح قلت له أذكره بالوظيفة وهو يغادر إلى الجريدة:
– لا أحب أن أجلس وحدي في الشقة!
نظر إلى وأدرك ما أريد:
– قريبا جدا تتسلمين العمل في الوزارة.
بعد أسبوع كنت ضمن فريق السكرتارية في مكتب مسئول كبير بالوزارة،
***
أغرقت في الضحك عندما قال لي الأديب الشاب أحمد عصمت:
– إن الشاب مصطفى رضا يطلب يدك!
يا لها من مفارقة! حين أتزوج يكثر الخطاب! ما ذا أقول لأحمد عصمت والنادي يغص بالأدباء والمثقفين الذين يسمعوننا؟ هل أصارحه بالحقيقة السافرة على الملأ؟ وعلى فرض أني قبلت الزواج من مصطفى رضا، فهل كنت سأعيش في قريته؟ وهل أستطيع أن أحقق الشهرة التي أسعى إليها وحققت بعضها هنا؟
قلت هامسة لأحمد عصمت وابتسامة غامضة على شفتي:
– للأسف، جاء صاحبك متأخرا. فأنا الآن زوجة لرجل مهم! وتركته حائرا، وانطلقت خارجة من النادي.
بعد أسابيع رأيته ينظر إلي بعين فيها انكسار وهزيمة. شعرت بحلمه الذي تحطم. تملكتني جرأة لم أعرف كيف واتتني:
– أستاذ مصطفى!
رد عليّ مذهولا، كأنه لا يصدق أني أكلمه:
– مرحبا يا أستاذة!
ابتسمت، وقلت له:
– أنت شاب ممتاز، وتتمناك أجمل امرأة.
فغر فاه ولم يعلق.. فأكملت:
– كنت أتمنى أن أحقق أمنيتك، لولا أني مرتبطة!
لم ينطق بكلمة.. فقلت له:
– أتمنى أن أحضر عرسك قريبا.
قال كلمة واحدة:
– شكرا.
وأعطاني ظهره ومضى..
بعد فترة، علمت الزوجة الأولى لرئيس التحرير بما كان بيننا، فوجدت الرجل يحدثني بانكسار عن ضرورة الانفصال. وترقرقت الدموع في عينيه وهو ينهي إجراءات الطلاق، ويتنازل عن بعض الأشياء، ويوصيني أن أزوّده بأخباري، وأستعين به عند الأزمات، فبيننا صداقة لن تنقطع!
وصرت امرأة مطلقة وحيدة في مدينة البؤس والزحام!