بعد صراع مرير مع المتربصين من أعداء الداخل والخارج، سقطت الخلافة العثمانية في 27 رجب 1342هـ/ 3 مارس 1924م، حيث وافق البرلمان التركي على إلغائها، في الوقت الذي أعلن فيه مصطفى كمال أتاتورك قيام الجمهورية التركية، وبذلك انتهت مسيرة دولة الخلافة التي ظلت تخدم الإسلام والمسلمين لمدة 1292 عاماً.
وكان لسقوط الخلافة آثاره المدمرة على مستوى العالم الإسلامي؛ حيث تفككت أوصاله، وتشتت كلمته، واهتزت هيبته، واحتلت أرضه.
وعلى المستوى المحلي حيث أعلن أتاتورك الحرب الشعواء على كل مظاهر التديّن، وأوقف حياته على تمكين العلمانية من كل أركان الدولة التركية، وإعادة، حسب زعمه، «الهوية التركية» للشعب التركي وتخليصه من التأثير العربي، وفي سبيل ذلك فرض ارتداء القبعة على الرجال؛ حيث إنه كان يرى أن الطربوش رمز للعادات الإسلامية، وتبنى التحول إلى العادات الغربية، ومنع حجاب المرأة المسلمة، وجعل الأذان في المساجد باللغة التركية، وحوّل مسجد آيا صوفيا في إسطنبول إلى متحف، وأعاد الحياة لماضي تركيا ما قبل الإسلام، وألغى التاريخ الهجري ليعتمد التاريخ الميلادي، كما اعتمد الحروف اللاتينية لكتابة اللغة التركية بدل الحروف العربية.
وكان من أخطر ما أقدم عليه من إجراءات إلغاء أحكام الشريعة الإسلامية، وتبنّي القوانين الوضعية؛ حيث إنه فرض القانون المدني السويسري والقانون الجنائي الإيطالي والقانون التجاري الألماني.
أسباب سقوط دولة الخلافة
كان من أسباب سقوط دولة الخلافة: التهاون في الالتزام بالإسلام مما كان عاملاً من عوامل انهيار الدولة وتفككها، وإهمال اللغة العربية وتعليمها للنشء وعدم نشرها وتعليمها لأهل البلدان المنضوية تحت لواء دولة الخلافة؛ مما ترتب عليه عدم الترابط حيث كانت اللغات مختلفة، وإهمال نشر تعاليم الإسلام في الدول التي دخلت تحت لواء الخلافة العثمانية، وانتشار الفرق الدينية الضالة التي قام بزراعتها داخل جسد الدولة العثمانية أعداء الخلافة، وذلك لنشر المفاهيم الخاطئة والمغلوطة، ووصول أعداء الخلافة كأمثال أتاتورك إلى مراكز حساسة في الدولة، وانتشار الأحزاب والحركات الانفصالية والعرقية، والجيش الانكشاري الذي عمل تمرده الدائم على سلاطين الدولة العثمانية وتدخله في شؤون الحكم على إثارة روح التمرد والمؤامرات والفتن مما أدى إلى إضعاف الدولة والتقليل من هيبتها.
فقه حديث السفينة والحفاظ على وحدة الدولة
هكذا تعددت أسباب سقوط دولة الخلافة؛ ولكن هذه الأسباب لم تجد اليد التي تمنع انتشارها وتأخذ على يد مثيريها حتى تنجو الدولة من السقوط!
وهذا ما دعانا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف عن النعمان بن بشير رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً»(1).
فالأخذ على يد الظالم والمتمرد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم العبادات؛ فبه يقوم أمر المسلمين، وينصلح حال أمتهم، وبدونه تنهدم هذه الأمة.
وفي هذا الحديث ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لأهمية القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيدي المفسدين، فمثَّل القائمين بحدود الله -وهم المستقيمون على أمر الله، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر- والواقعين في حدود الله -أي: التاركين للمعروف، والمرتكبين للمنكر- برُكاب ركبوا في سفينة، فتنازعوا من يكون في أعلاها ومن يكون في أسفلها، فاقترعوا على من يجلس أعلى السفينة ومن يجلس أسفلها، فنال بعضهم بالقرعة أعلاها، وبعضهم نال بالقرعة أسفلها، وكان الذين في الأسفل إذا أرادوا جلب الماء مروا على من فوقهم من أهل الأدوار العليا، وفي موضع آخر في صحيح البخاري قال: «فتأذوا به»، ففي ذهابهم وإيابهم وإمرارهم بالماء عليهم أذية لمن هم في أعلى السفينة.
فقال الذين في الأسفل: لو أنا خرقنا خرقاً في نصيبنا الذي في الأسفل، فجلبنا الماء مباشرة دون أن نصعد لأعلى السفينة ونؤذي من في الأعلى؛ لكان أفضل.
وفي رواية أخرى في البخاري قال: «فأخذ فأساً، فجعل ينقر أسفل السفينة»، فلو تركهم من بالأعلى يفعلون ذلك، لغرقت السفينة بهم جميعاً؛ لأن من لازم خرق السفينة غرقها وأهلها، ولو قاموا بنهيهم عن ذلك ومنعوهم من ارتكاب هذا الخطأ، وأخذوا على أيديهم لنجى الفريقان جميعاً.
فهذه الحال لو انتبه أهل «الحل والعقد» لهؤلاء الذين نشروا الفساد والفرقة بين المسلمين فأخذوا على أيديهم؛ لنجت الأمة من الهلكة والسقوط.
وعندما تخلى أهل «الحل والعقد» في دولة الخلافة عن مهمتهم في الأمر بالمعروف النهي عن المنكر والأخذ على أيدي المفسدين؛ سقطت الأمة في وحل الضعف والهوان والتخلف الذي نرى أثره في كل ميادين الحياة الآن.
عودة الخلافة الراشدة
نحن لا نشك في عودة الخلافة الراشدة؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرنا بذلك في الحديث الصحيح، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت»(2).
والحديث كما نرى يبشرنا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بقيام خلافة راشدة على منهاج النبوة، ولكنه لم يحدد زماناً بعينه لذلك، ونظن أن زمانها قد اقترب لأن العالم الإسلامي يعيش في زمن المُلك الجبري في هذه الأيام كما قال أهل العلم.
ولا يجوز أن تكون البشرى بعودة الخلافة مدعاة للتواكل والقعود عن العمل بالإسلام ونصرته، وإلا جرت علينا سُنَّة الله تعالى في خلقه حيث قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38).
والواجب علينا هو بذل أقصى ما في الوسع والطاقة لنصرة دين الله تعالى حتى نكون أهلاً لنصر الله، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).
_______________________
(1) رواه البخاري (2493).
(2) رواه أحمد والبزار والطبراني، وصححه الحافظ العراقي والشيخ الألباني وغيرهما.