تعلم واكتساب المقاومة، والتدرب عليها، كنمط حياة، وثقافة مجتمع، ليس دورة نظرية أو «كورس» يتم منحه «أون لاين» على يد مدربي التنمية البشرية، نظير مقابل مادي، أو لقطات للمشاهدة، تحظى بالإعجاب، أو سماع خطبة دينية يتم الإنصات إليها ثم مصمصة الشفاه.
من خلال معترك الحياة، ودهاليز الواقع، أرى أن المقاومة قبل أن تكون سلوكاً وثقافة، هي شعور يسري في أوصال الإنسان، وأمل يتدفق إلى الشرايين، ثقة في الله أولاً، ورغبة في الصمود ثانياً.
حينما تريد أن تقاوم ظلماً ما، أو باطلاً، أو سلوكاً سيئاً، أو خُلقاً غير حميد، أو عادة رذيلة، أو كسلاً وخمولاً، فإن المرء يجابه بما يعرف بـ«المقاومة الداخلية»، التي تمثلها قوى من داخل نفسك، تريد تثبيطك، وإضعاف همتك، ونزع الحماسة من صدرك، وهي قوى تتحول إلى عوائق وحواجز من الداخل، وتحول دون أن ينهض الإنسان نحو تحقيق أهدافه.
من هذه القوى الداخلية، الخوف، والشك، والتردد، وعدم الثقة بالنفس، والخوف من المغامرة، والاتكالية، والتنصل من المسؤولية، والتسويف، وغير ذلك من معوقات، تكره فعل المقاومة؛ الأمر الذي يعني أن التخلص من هذه الآفات والانتصار عليها هو بداية الطريق إذا أردت أن تكون مقاوماً، وإنساناً له إرادة، صانعاً للنجاح والإنجاز.
إن المسلم الناجح، والمؤمن المثابر، لهو أحق وأجدر بأن يبدأ طريق الانتصار، في أي معركة، أو قضية، أو مجال حياتي، بأن يتغلب على قوى المقاومة الداخلية، حينها سيبدأ مشروع التحرر من كل قيد، لينطلق قُدماً في المضي نحو هدفه، لا يعبأ بالظروف والمصاعب.
يصر، يتحدى، يكد، يجتهد، يخلص، يتفانى، يصبر، يثابر.. هي أفعال بمضامين تحمل روح المقاومة، وهي أمور لا تباع في «السوبر ماركت» أو «المول»، بل تُستقى من دينك وصلاتك وسجودك وذكرك وعلمك وعملك ومعارفك وأحلامك، وقتها ستملك بضاعة ثمينة لا تقدر بثمن.
ستتوافر تلك البضاعة حين الولوج الذاتي إلى مصنعك الداخلي، فتغرس في روحك نبتة الأمل في الله، وتوقد في قلبك شعلة الإيمان، وتوقظ في جنبات نفسك صحوة الضمير، وتحيي في عقلك حلم النجاح، وتدفع إلى شرايينك، جينات التحدي، وخلايا الإصرار.
نعم، عد إلى نفسك برهة، ورتب مصنعك الداخلي، وانتصر على أعدائك الداخليين، لا تؤجل، ولا تسوف، ولا تبرر، ولا تمل، ولا تيأس، ولا تقصر، ولا تدخر جهداً، وقتها، سينطلق هذا المصنع الإنساني، نحو قهر المستحيل، وصنع الأساطير، وما أهل غزة عنا ببعيد.
لقد قاوموا فوق الأرض، وتحت الأرض، وكافحوا ضد الظلم والبغي، وتصدوا للخيانة والخذلان، وقاوموا التعطيش والتجويع، واحتموا بذات الله، ثم أعدوا ما استطاعوا من قوة، فقهروا أعتى قوى البشر، وصمدوا أمام جيوش العالم، وسطروا تاريخاً، سيسجل بحروف من نور في قواميس المقاومة.
مسيرة عطاء
مسيرة المقاومة لا تتوقف عند مرحلة ما، حتى في المرض، يلجأ الأطباء إلى استثارة روح المقاومة لمجابهة الخلايا الفاسدة، والسرطانات المميتة، فما بالنا بالأصحاء، إذا كانت خلاياهم سليمة وناضجة، ينقصها فقط الروح والأمل والرغبة في الانتصار.
هذا المقاوم لا يتوقف عن التعلم، ولا يكل من العمل، ولا يقنط من روح الله، قد يخاف لكنه يروض الخوف، قد يتعب لكنه يشحن بطاريته الداخلية، قد يتلقى النقد واللوم لكنه يثابر ويتصبر، سائلاً الله التوفيق، ومخلصاً في العطاء، متفانياً في العمل.
إن هذا المقاوم ينتصر على نفسه أولاً، يقهر هواه، ويُذل شيطانه، ويسخر جوارحه لخدمة هدفه النبيل، ويرتب أولوياته، ويستغل وقته بشكل جيد، ويخطط بحكمة، ويصعد الدرجة تلو الأخرى، لا يثبطه مثبط، ولا يعيقه منافق، ولا يوقفه متخاذل، ولا يحبطه كسول، فهو كيس فطن، يحدد هدفه بدقة، ويسير إليه بخطى ثابتة، على أرضية من العلم والمعرفة والأخذ بالأسباب، والتوكل على رب الأسباب.
وبالتأكيد، تتنوع صور المقاومة، ليس شرطاً بحمل السلاح كما الحال في غزة الأبية، لكن عبر صور شتى، فالطالب المتفوق مقاوم للفشل، وحامل العلم مقاوم للجهل، والزارع والصانع والمخترع والتاجر وغيره، كل منهم على حدة مقاوم للعجز والبطالة والتبعية والمال الحرام، كل منهم حامل لواء الاكتفاء الذاتي، ونصرة الأمة في ميدانه.
كذلك صاحب القلم يقاوم بقلمه، والشاعر بشعره، والفنان بفنه، والرسام بريشته، والداعية بكلمته، والطبيب بدوائه، والعابد بصلاته، كل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن التيه إلى الأمان.
أخيراً، فأنت حين تدافع عن دينك ووطنك وهويتك، وأرضك وعرضك، وعن كل قيمة سامية، وعن كل خير وحق، وعن كل نجاح وتقدم، فأنت مقاوم في زمن قل فيه المقاومون.