ذكرنا بعض قبائح اليهود التي لعنوا بسببها وضربت عليهم الذلة والمسكنة وغضب الله عليهم ومسخهم وحمل عليهم الإصر والأغلال وأوقع في فرقهم العداوة والبغضاء وسلبهم الحكومة والسيادة واستشهدنا على ذلك بآيات من القرآن.
وكان أكبر هذه الأسباب التي استحقوا بها السخط قتلهم الأنبياء ونقضهم الميثاق الذي أخذ الله عليهم وإيذاؤهم موسى عليه السلام وآباؤهم العمل بالتوراة وطلبهم رؤية الله جهرة وتبديلهم ما أمروا به ونسبتهم الهزء إلى موسى عليه السلام وعبادتهم العجل وقولهم: إن الله فقير وأن يده مغلولة (تعالى الله عما يقولون)!
وكل ذلك ذكره الله في كتابه العزيز في آيات كثيرات في مواضع من القرآن متعددة.
ونذكرها هنا قبيحة من قبائحهم وهي اغترارهم بالعقيدة الفاسدة وهي أنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة كما قال تعالى: (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {80} بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 80).
وهذا النوع من قبائح اليهود مما يتعلق بحقدهم الفاسد وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياماً قليلة، وهذا الجزم لا سبيل إليه بالعقل البتة إلا بالدليل السمعي، ولا توجد هناك دلالة سمعية فكيف جوزوا الجزم بذلك.
وقد روى عن مجاهد أن اليهود كانت تزعم أن الدنيا سبعة آلاف سنة، فالله تعالى يعذبنا سبعة أيام، وحكى الأصم عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون: إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام، ويروى عن ابن عباس أنه فسر هذه الأيام بالأربعين وهو عدد الأيام التي عبدوا العجل فيها.
وكل ذلك من أباطيلهم وقد رد الله تعالى عليهم بأن وعيده لاحِقٌ بالعصاة وهم أصحاب النار وأنكر على اليهود أن يكون لديهم عهد بذلك.
وفي موضع آخر يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {21} أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ {22} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ {23} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ {24} فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (آل عمران).
وقد روى عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال: «رجل قتل نبياً أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف»، وقرأ هذه الآية، ثم قال: «يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله تعالى».
ولما كان المراد هنا شرح عِظَم ذنبهم وقد وصف بثلاثة أوصاف جاء وعيدهم من ثلاثة أوجه أيضاً:
الأولى: العذاب الأليم وذلك قوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
الثاني: حبوط أعمالهم وذلك قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
الثالث: قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).
وقد بين الله بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبين بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية، وبين بالوجه الثالث حقهم حتى لا يكون لهم ناصر ولا دافع.
وقد ذكر الله بعد ذلك اليهود وعدم احتكامهم إلى كتاب الله وإعراضهم عنه، ويروى في ذلك عن ابن عباس أن رجلاً وامرأة من اليهود زنيا وكانا ذوي شرف، وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما عندهم، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم، فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجم، فأنكروا ذلك، فقال: «بيني وبينكم التوراة، فإن فيها الرجم فمن أعلمكم؟»، قالوا: عبدالله بن صوريا الفدكي، فأتوا به وأحضروا التوراة فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها فقال ابن سلام: قد جاوز موضعها يا رسول الله، فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرجما؛ فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً فأنزل الله هذه الآية.
ويروى أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم دخل مدرسة اليهود وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: على أي دين أنت؟ فقال: «على ملة إبراهيم»، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلموا إلى التوراة»، فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى في هذه الآية.
ويروى كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى التوراة وفيها علامات بعثته والدلائل الدالة على صحة نبوته؛ فأبوا الرجوع إليها فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم فلا عجب من مخالفتهم كتابنا، فلذلك قال تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، ولو علموا أن ليس في التوراة ما يدل على نبوة نبينا لسارعوا إليها، ولكنهم أسروا ذلك وقد استوجبوا الذم بعد ذلك على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة، وأنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين، وأنهم كانوا يعتقدون أنه لا تأثير لتكذيبهم محمداً في تغليظ العقاب، فكان ذلك تصريحاً بتكذيبهم إياه مع استحقار هذا التكذيب.
أما قوله تعالى: (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)؛ فالمراد إما قولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، وإما قولهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ).
وكل ذلك من قبائحهم الموجبة عليهم الغضب واللعنة، وقيل وغرهم قولهم نحن على الحق وأنت على الباطل.
ومعنى قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ) أنه لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بين أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل وينكشف فيه ذلك الغرور.
ومن قبائح اليهود قولهم لموسى عليه السلام: (إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)، فانظر أيها المسلم إلى حكاية هؤلاء الملعونين وإلى قول قادة هذه الأمة المرحومة وسادتها مع قلة عددها وعددها يوم «بدر»: يا رسول الله، اذهب أنت ونحن نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن يسارك، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر الأخضر لخضنا.
فَوَازِ بين هاتين المقالتين وزنهما بميزان العدل تجد بينهما بُعد المشرق والمغرب، فكلمة اليهود كلمة كفر تكاد السماوات يتفطرن منها وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً، وكلمة هذا المسلم الواحد القائم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الواقف في عدد من المسلمين ثلاثمائة وثلاثة وعشرين كلمة إسلامية صدرت من صميم القلب المسلم وتجاوزت السماوات السبع حتى بلغت قائمة العرش العظيم تحوم حولها وتأخذ الجزاء من رب العرش الكريم جزاء وافراً كاملاً يبلّغه درجات عالية وغرفات غالية في جنة النعيم.
نعم، هذه القبائح الجالبة على اليهود اللعن والطعن والذلة والمسكنة وغيرها هي التي تحثنا على الجهاد والقتال واستعمال السيف والسنان والحراب والسهام لتعرف قوة المجاهدين ويعرف جبن الجبناء، وقد تغلب هؤلاء اليهود الملعونون على بعض أهل الإسلام باستعمال النار ولا يعد لهم ذلك نصراً ولا ظفراً، بل هو ضرب من الحباب الذي يكون على الماء ثم يضمحل ويذهب جفاء، فالمسلم الواحد الحق يكفي لغلبة اثنين والمائة تغلب مائتين بنص القرآن كما قال تعالى: (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 66).
ويجب علينا استعمال آلات النار مثلما يستعملون لقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، وقال تعالى: (وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 191)، وليس من شأن المسلم الوهن في ابتغاء القوم الكافرين كما قال تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء: 104)، وكذلك ليس من شأن المجاهد المخلص أن يولي دبره يوم الزحف، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ {15} وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال)، بل الكافر هو الذي يولي دبره كما قال تعالى: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) (الفتح: 22)، وقال: (وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (آل عمران: 111).
_________________________
كتاب «رسائل الشيخ المحدث أبي محمد عبدالحق الهاشمي»، الجزء الثاني، قبائح اليهود، ص 69 – 73.