تعاني كثير من أمم العالم من مشكلة التبعية للغرب والاستهلاك الأعمى لمنتجاته وثقافته، وهي مشكلة تهدد هوية هذه الأمم وسيادة دولها، وتحول دون تحقيق الاكتفاء الذاتي والاستقلالية، ولمواجهة ذلك قدمت عديد الأمم نماذج لـ«المقاومة الحضارية»، جسدتها عمليات إنتاج التقنية عبر ورش ومعامل محلية.
وتستهدف هذه النماذج الحفاظ على القيم والمبادئ والتراث الحضاري للأمم، والتصدي للتأثيرات والتدخلات الخارجية السلبية، التي تستهدف إعاقة قدرتها على إنتاج التقنية بالأساس وبالتالي الارتهان إلى الحالة الاستهلاكية والتبعية.
وتتميز الورش المحلية بأنها تعتمد على القدرات والموارد المحلية، وتستجيب للظروف والاحتياجات المحلية، وتحترم التنوع والتعددية المحلية، وتسعى إلى تحسين جودة الحياة والعيش المحلية، حسبما أورد دراسة نشرت في «Journal of Local Development»، عام 2020م، أظهرت أن الدول النامية قادرة على تعزيز الاقتصاد المحلي وتحسين مستوى معيشة السكان من خلال مثل هذه الورش.
وفي عالمنا الإسلامي، تمثل حالة قطاع غزة أبرز ما تقدمه الحالة الإسلامية حالياً في هذا الإطار، إذ ساهمت الورش المحلية بالقطاع في التغلب على الحصار «الإسرائيلي» الذي يستهدف منع قدرة المقاومة على إنتاج أي سلاح، وأنتجت عديد الأسلحة الخاصة بها، مثل بنادق «الغول» للقنص، وطائرات «الزواري» المسيّرة، وعبوات «شواظ» الناسفة.
ففي ظل التحديات الأمنية والحصار «الإسرائيلي»، أصبحت الهندسة العكسية لصناعة السلاح أداة حيوية للمقاومة الفلسطينية، وهي عملية تحليل الهياكل والتكنولوجيا المعقدة في سلاح ما بهدف استنتاج كيفية تصميمه وإنتاجه، حسبما عرفها جون سميث في دراسة نشرته مجلة «جورنال مليتاري» الأمريكية عام 2020م.
وإزاء هذا التطور اللافت في تطوير قدرات الاعتماد الذاتي، خلص مركز القدس للشؤون العامة، وهو مؤسسة بحثية «إسرائيلية» متخصصة في الدبلوماسية العامة والسياسة الخارجية، إلى أن المقاومة الفلسطينية في غزة أصبحت، بفضل ورشها المحلية وتطبيقها للهندسة العكسية، قادرة على صنع جزء كبير من أسلحتها، وبالتالي فإن حصار القطاع بات محدود الجدوى من الناحية العسكرية إلى حد كبير.
غير أن المستوى المدني للمقاومة الحضارية لا يقل أهمية عن المستوى العسكري، بل هو أساسه وركيزته، وهو ما فصله الباحث هاني محمود في كتابه «المقاومة الحضارية: دراسة في عوامل البعث في قرون الانحدار».
يضرب محمود مثالاً بالأزهر الشريف على كيفية تحول المؤسسة الدينية إلى ورشة محلية من زاوية ثقافية أدت دوراً تاريخياً كمؤسسة وسيطة في مشهد مقاومة الحملة الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر.
ووفق الدراسة، فإن الأزهر كان قادرًا على إحياء المفاهيم الحضارية الإسلامية وتفعيلها وتشغيلها على الصعيد المجتمعي من خلال حثه على المقاومة بشكل حضاري في مواجهة التحدي القادم في صورة غزو أجنبي، ولذا فإن هذا النوع من مؤسسات التعليم الديني يواجه بحرب ثقافية من جانب إعلام الغزاة.
الحرف اليدوية
وعلى مستوى القطاعات الاقتصادية، تسلط رسالة دكتوراة بعنوان «الورش المحلية والتنمية المجتمعية: دراسة ميدانية عن مشروع تطوير الحرف اليدوية في تركيا»، للباحث محمد علي أوزكان، الضوء على دور مشروع تطوير الحرف اليدوية في تركيا في تحقيق التنمية المجتمعية والمقاومة الحضارية.
وأوردت الرسالة أن المشروع قام على تدريب وتأهيل وتشغيل النساء القرويات في مجالات الحرف اليدوية المحلية، وتحسين دخلهن ومهاراتهن وثقتهن بأنفسهن، وتعزيز الهوية والثقافة والتراث الحرفي التركي، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للمجتمعات القروية.
ويخلص أوزكان إلى أن مشروع تطوير الحرف اليدوية في تركيا أدى دورًا فعالًا في عملية المقاومة الحضارية التي أهلت البلد المسلم إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في عديد المنتجات ومواجهة كثير من التحديات في ظل صعوبة الظروف العالمية والإقليمية والمحلية.
تجربة اليابان
كما سجلت تجارب المقاومة الحضارية من خارج العالم الإسلامي نماذج نجاح عديدة لنموذج الورش المحلية في تحقيق النهوض والتحرر، أبرزها في اليابان، إذ كان لورش العمل المحلية دور بارز في إحياء الاقتصاد الوطني خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد كارثة إلقاء القوات الأمريكية قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، وذلك عبر عملية إعادة بناء البنية التحتية المدمرة.
ووفق دراسة «التجربة اليابانية.. دراسة في أسس النموذج النهضوي»، للباحث المغربي سليمان بونعمان، فإن الورش المحلية في اليابان مثلت إرهاصات النهضة اليابانية وأسسها ورهاناتها، ومزجت بين الحداثة والأصالة والهوية في معركة النهوض.
وتخلص الدراسة إلى أن التجربة اليابانية تمثل نموذجًا ملهمًا للشعوب من زاوية تحقيق الاكتفاء الذاتي وبناء نموذج نهضوي خاص بالمعرفة والإبداع والابتكار المحليين.
ويتمثل القاسم المشترك بين دراسة نموذج اليابان ونماذج النجاح في عالمنا الإسلامي في أنه لا نهوض أو تحرر إلا بالقدرة على تصنيع الإنتاج الخاص محلياً، وبقدرات لا ترتبط بتبعية غربية، وهو جوهر الصراع مع الهيمنة الغربية وقواعدها الاستعمارية في عالم اليوم، وفي مقدمتها قاعدتها الإستراتيجية على أرض فلسطين المحتلة، متمثلة في الكيان الصهيوني.