ينص القرآن الكريم على وجود أواصر أخوّة بين اليهود والمنافين الذين عاشوا في المدينة متحالفين ضد الإسلام والمسلمين، وهذه الأخوة التي قررها القرآن الكريم ليست نسبية؛ بل أخوة النفاق والتكذيب والكذب على الله ورسوله.
فالمنافقون هم من يُظهرون الإسلام ويُبطنون الكفر، واليهود هم الذين كذبوا على الله وقتلوا الأنبياء وقالوا: «عزير ابن الله»، وقالوا: «إن الله فقير ونحن أغنياء».
قرر القرآن الكريم صلة الأخوة، وهذا النسب بين الفريقين الذين اختلفوا في كل شيء إلا عداءهم لله ورسوله وحربهم على الإسلام والمسلمين؛ (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) (الحشر: 11)، والمنافقون هم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر من أتباع عبدالله بن سلول (مؤسس مدرسة النفاق) زعيم المنافقين وقدوتهم إلى يومنا هذا، من الذين نطقوا بالشهادتين «أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله»، وأسرّوا في قلوبهم الكفر، وأهل الكتاب المعنيين في سياق الآية هم اليهود من سكان المدينة أثناء هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها من مكة، وهم بنو قريظة وبنو قينقاع وبنو النظير.
يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب في تفسير هذه الآية: وأول لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين الذين كفروا من أهل الكتاب؛ فأهل الكتاب هؤلاء كفروا، والمنافقون إخوانهم ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام.
وهؤلاء الإخوة –المنافقين واليهود- توجد بينهم أواصر المحبة والنصرة والدفاع المشترك حتى إن المنافقين يعطون المواثيق لإخوانهم اليهود بأنهم لو خرجوا يخرجون معهم، وإن قوتلوا لينصرونهم.
وفي هذا السياق، وعْد المنافقين لإخوانهم اليهود، يقول سيد قطب: ثم هذا التوكيد الشديد في وعد المنافقين لإخوانهم (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الحشر: 11)، إلا أن الحقيقة الجوهرية المحضة أنهم كاذبون.
فلا هم نصروهم ولا هم قاتلوا معهم، بل خذلوهم وتخلوا عنهم وهذا ديدن المنافقين وسلوك اليهود في نقض الميثاق والكفر بالله وقتل الأنبياء ومحاربة الصالحين من المؤمنين، فهم قوم بُهت؛ كما وصفهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أحبارهم وسيدهم وابن سيدهم قبل إسلامه، واتبع دين الحق وآمن برسالة الإسلام.
يقول قطب: والله الخبير بحقيقتهم –المنافقين واليهود- يقرر غير ما يقررون ويؤكد غير ما يؤكدون (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {11} لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ)، ثم يقرر حقيقة قائمة في نفوس المنافقين وإخوانهم الذيم كفروا من أهل الكتاب –في كل مكان وفي كل زمان- (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ) (الحشر: 13)، رهبة المنافقين الذين كفروا من أهل الكتاب سنة سارية منذ عهد المعنيين في سياق الآية، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتستمر هذه الرهبة في قلوبهم ما سار واستمر على نهجه من القرون التالية إلى يومنا هذا ما تلاه من أيام التالية في تاريخ هذه الأمة في صراعها مع المنافقين الذين كفروا من أهل الكتاب طالما كان هناك تحالف بين حركة النفاق (التطبيع) وعداء الذين كفروا من أهل الكتاب.
فهم يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله، ولو خافوا الله ما خافوا أحداً من عباده؛ فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة، ولا يجتمع في قلب خوف من الله وخوف من شيء سواه إلا خوف الذين كفروا من أهل الكتاب، فهذه صفتهم وهي الخوف من المؤمنين أشد في قلوبهم من الخوف من الله، ولكن الذين لا يفقهون هذه الحقيقة يخافون من عباد الله أشد مما يخافون الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون، فهذه الآية تكشف عن حقيقة القوم الواقعية التي هي لسان حالهم ومقالهم معاً.
وهذه حقيقة أخرى يقررها القرآن الكريم في جبنهم وحرصهم على حياتهم واختلاف قلوبهم وجبنهم وعدائهم بعضهم بعضاً، وبأسهم بينهم شديد أشد مما نرى، وأنهم قوم لا عقول لهم، ولا بصائر يدركون بها الحق؛ (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) (الحشر: 14).
يقول قطب: وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في تشخيص حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون معهم في أي زمان وكل مكان بشكل واضح للعيان، ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة -حرب فلسطين 1948م- بين المؤمنين الفدائيين، واليهود، مصداق هذا الخبر، فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين، فإذا ما انكشفوا لحظة واحدة ولوا الإدبار كالجرذان حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء وسبحان الله العليم الخبير!
وما عشناه اليوم بالصوت والصورة في معركة «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، استمرار لما قاله سيد قطب في تقرير حقيقة خبر الآية الكريمة حول صدق الخبر الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي يقرره القرآن الكريم أن المنافقين المطبعين والذين كفروا من أهل الكتاب من المسلمين إلا عندما تتفرق قلوب المسلمين فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية الكريمة.
فأما في غير هذه الحالة، فالمنافقون (المطبعون) في غير هذه الحالة أضعف وأعجز، وهم والذين كفروا من أهل الكتاب متفرقو الأهواء والمصالح والقلوب بأسهم بينهم شديد، فاليهود لن يتركوهم وشأنهم، بل سوف يقلبون لهم ظهر المجن في أول فرصة فيمن طبع معهم وسار في ركبهم، فالغدر والخيانة سجية مطبوعة فيهم، ولكن المطبعين لا يفقهون ولا يتعظون.
______________________________
رئيس مركز الكندي للدراسات والبحوث.