بينما يزداد شلال الدماء تدفقًا، وتزداد حرب تجويع غزة شراسة، تعود جدلية السؤال عن نشأة «داعش» ومن يقف وراءه، حيث يتم تسويقها بما يخدم موقف الكيان الصهيوني ومحاولة تشويه صورة «حماس» سعيًا لهز الثقة في مشروعها وملحمتها التاريخية في غزة!
وقد توقفت متأملاً ما كتبه د. عبدالرزاق الشمري، على حسابه في «إكس»، تعليقًا على حوار زوجة أبي بكر البغدادي لقناة «العربية» قائلًا: إنها اعترفت بـ«عضمة» لسانها بأن زوجها كان على علاقة وثيقة مع الإرهابي المقبور قاسم سليماني، وأنه زار البغدادي في الرقة، وأنهما كانا على تواصل دائم، ووجّه حديثه لمن يقيمون علاقات جيدة مع إيران متسائلًا: ما تبرير الولائيين من أذناب إيران وكلابها الآن؟ وما موقف المجتمع الدولي الذي ألصق «داعش» بكاهل أهل السُّنة؟ ومن الذي سيتحمل مسؤولية أكثر من 6 ملايين سُني هجروا مدنهم بسبب «داعش»؟ ومن الذي سيتحمل مسؤولية المحافظات السُّنية التي دمرت بحجة «داعش»؟
ثم أورد نصوصًا من اعترافات زوجة البغدادي على النحو التالي: «علاقة زوجي مع قاسم سليماني كانت وطيدة، وزارنا سليماني أكثر من مرة في بيتنا بالرقة، علاقة زوجي مع إيران كانت قوية، وزارها أكثر من مرة، وأقام بها عدة مرات.. زوجي كان يحب الخميني وكان يقرأ عنه وكان مؤمنًا بكل أفكاره.. زوجي صنيعة إيران.. والتنظيم كله صنيعة إيران.. والتنظيم برمته صناعة إرهابية، وكثير من قيادات التنظيم يقيمون في طهران الآن».
وهكذا، وهو ما يعني لدى د. الشمري أن «داعش» الذي ابتليت به المنطقة، بل المسلمون جميعًا صناعة إيرانية، ويلقي بظلال من الشك على كل من يقيم علاقات تعاون مع إيران حتى ولو كانت أهدافه ترمي للتحرر من الاحتلال.
وهذا الكلام ينصب بصورة غير مباشرة على علاقة إيران مع كل من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وحركة الجهاد الإسلامي التي باتت واضحة للكافة خلال الحرب الوحشية التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة!
وبداية، أتفق مع معظم ما ذهب إليه د. الشمري عن علاقة «داعش» بإيران، وأضيف إليه ضرورة استمرار الانتباه إلى أخطار كل من المشروع الشيعي وفكر «داعش» ومثيلاته على المنطقة، وهو ما تم تناوله في أكثر من مناسبة وعلى أكثر من منصة بكثافة، لكن أصول الموضوعية، بل الضمير المهني يحتمان على المحلل عندما يقف أمام تلك الاعترافات الانتباه إلى:
أنها صدرت عن زوجة البغدادي وهي في قبضة الأجهزة الأمنية، وبالتالي فهي لم تكن حرة وآمنة عندما تكلمت، ويبدو من نصوص اعترافاتها أنها معدة سلفًا أو مملاة عليها، وبالتالي فهي لم تخدم الحقيقة بالصورة المطلوبة، بل تلقي بظلال من الشك على مصداقيتها.
وغني عن البيان، فإن كلاً من فكر «داعش» والمشروع الإيراني قُتلا بحثاً وليسا في حاجة لاعترافات من زوجة البغدادي أو غيره، لكن الخطير في الموضوع هو توقيت بث قناة «العربية» لتلك الاعترافات في هذه الآونة التي تشتد فيها الحرب الصهيونية الوحشية على قطاع غزة، والتي تقف حركة «حماس» والمقاومة الفلسطينية بكل شموخ وحيدة في مواجهتها، وتسطر ملحمة بطولية سيتوقف التاريخ أمامها طويلًا.
أقول: تم بث تلك الاعترافات في هذه الأجواء وقامت بالتقاطها وسائل إعلام عربية قبل الأجنبية وروّجتها على أوسع نطاق بهدف وحيد هو –فيما أعتقد- تشويه حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» والمقاومة بصفة عامة، وبث الشكوك حول صمودها المعجز في محاولة لفض الجماهير العربية والمسلمة عنها؛ لأنها، وفق تساؤل الشمري، «من أذناب إيران وكلابها»، وإن كان الشمري لم ينص على ذلك صراحة!
ومعروف أن العالم -بما فيه العالم العربي- يدير ظهره لـ«حماس» والمقاومة، بل يتردد أن هناك ثلاث دول عربية تحرض للقضاء على «حماس» وتقدم المساعدات اللازمة للصهاينة؛ لأن انتصار المقاومة –في عرف تلك الدول مثل أمريكا- يمثل انتصارًا للمشروع الإسلامي الذي تهفو الشعوب إليه؛ وبالتالي يكون خطرًا على معظم الأنظمة القائمة في المنطقة، ولذا فهناك توجس من أن «طوفان الأقصى» سيكتسح عروشًا عربية مع الكيان الصهيوني.
ثم إن التسرع بربط «داعش» بإيران لتشويه إيران وأصدقائها والتخويف منهم لن يحقق النتائج المرجوة، فالحقائق التاريخية المتحركة على الأرض تكذب ذلك، ولمزيد من الإيضاح في هذا الصدد، أعود للوراء قليلًا وأذكّر بأنه عندما تم تهجير قيادات «حماس» وبعض قيادات «الجهاد الإسلامي» من فلسطين المحتلة إلى منطقة مرج الزهور بجنوب لبنان، في 17 ديسمبر 1992م، وسيل الاتهامات لـ«حماس» والمقاومة عمومًا بالولاء لإيران لا يتوقف، وقد رد قادة المقاومة –وخاصة «حماس»- أكثر من مرة بأن الموجود هو تعاون أو تحالف ضد الاحتلال الصهيوني مع الاحترام الكامل لخصوصية كل طرف، ودون تدخل في الشأن الداخلي للمقاومة، ويدلل على ذلك المشاريع العلمية والتعليمية التي أقامها قادة «حماس» في خلال تواجدهم في مرج الزهور ذات الغالبية الشيعية، ومنها ما أطلق عليه «جامعة الإمام ابن تيمية»، ورغم رأي الشيعة المعادي له، فإن تلك الجامعة واصلت عملها تحت نفس العنوان ودون تغيير، ودون اعتراض من الشيعة احترامًا للخصوصية.
كما يدلل على ذلك ما أعلنته إيران والمقاومة أكثر من مرة بأن هجوم «حماس» التاريخي والمباغت يوم السابع من أكتوبر 2023م لم تعلم به سوى قيادة «حماس» نفسها دون غيرها، ومع ذلك فالاتهامات لـ«حماس» لا تتوقف!
ولعل شهادة الراحلة هيلين توماس، عميدة مراسلي البيت الأبيض وأول امرأة تتولى منصب رئيس نادي الصحافة الأمريكي، التي عاصرت أهم رؤساء أمريكا، وغطت أنشطتهم، تكشف مَنْ صنع «داعش»، فقد أرسلت قبل رحيلها بعدة أيام مقالة للنشر في كبريات الصحف الأمريكية، ولكن تم رفضها في حادثة لها للمرة الأولى؛ ما جعلها تنفجر صارخة في محاضرة بنادي الصحافة الأمريكي: «اليهود يسيطرون على إعلامنا وصحافتنا ويسيطرون على البيت الأبيض.. أنا لن أغيّر ما حييت ما أنا مؤمنة به؛ «الإسرائيليون» يحتلون فلسطين.. هذه ليست بلادهم.. قولوا لهم: ارجعوا لبلادكم واتركوا فلسطين لأهلها».
وأضافت: «إنني أرى بوادر حرب عالمية ثالثة، طبخت في مطبخ «تل أبيب» ووكالة الاستخبارات الأمريكية، والشواهد على ذلك عديدة.. أول خطوة ظهور تنظيمات إرهابية، بدعم أمريكي.. لا تصدقوا أن واشنطن تحارب الإرهابيين، لأنهم دمية في أيدي «سي آي إيه».. إنني أرى أن بريطانيا سوف تستحضر روح البريطاني مارك سايكس، وفرنسا سوف تستحضر روح الفرنسي فرانسوا بيكو، وواشنطن تمهد بأفكارهما الأرض لتقسيم الدول العربية بين الثلاث، وتأتي روسيا لتحصل على ما تبقى من الثلاث.. صدقوني إنهم يكذبون عليكم ويقولون: إنهم يحاربون الإرهاب نيابة عن العالم، وهم صناع هذا الإرهاب والإعلام يسوق أكاذيبهم؛ لأن من يمتلكه هم يهود إسرائيل».
هذه كلمات هيلين توماس قبل رحيلها قبل عامين، وتمت إعادة نشرها في ذكرى وفاتها في يوليو الماضي، وقد قوبل هذا النشر بعاصفة هجوم عاتية من اللوبي الصهيوني.
وتلقف كلماتها المخرج العالمي مايكل مور وحوّلها إلى فيلم تسجيلي سيخلده التاريخ، وغني عن البيان؛ فإن مايكل مور هو من فضح بوش الابن وعصابته من أصحاب شركات السلاح من اليمين الأمريكي مثل ديك تشيني، وكوندليزا رايس، في فيلمه الشهير «فهرنهايت 11/ 9» الذي حصل على أكثر من جائزة.
ما يهمنا وسط الأحداث الأخيرة، بداية من حادث سقوط الطائرة الروسية التي راح ضحيتها أكثر من 200 مدني، ثم حادث بيروت الذي خلف عشرات القتلى والجرحى، ثم حادث باريس، مرورًا بحوادث في العريش، والعراق، وليبيا، وسورية، أنّ التنظيمات الإرهابية لا يمكن لها أن تقوم بكل هذا العنف البشع بمفردها، وأن هناك أجهزة استخبارات تدعمها، وتشيطنها لتشعل المنطقة وتدفعها لأتون جحيم لا ينطفئ، ودفعها إلى حافة الفناء.
والفناء هنا يعني تسليم المنطقة للقوى التي خططت، ودعمت، وأشعلت على زحزحة القائم والمستقر وإزالة المعترف به.
ويُؤكد هذا كلام جيمس وولسي، رئيس الاستخبارات الأمريكية السابق الذي قال بوضوح: «المنطقة العربية لن تعود كما كانت، وسوف تزول دول وتتغير حدود دول موجودة»! وهو نفس المعنى تقريبًا الذي حملته تصريحات مارك رجيف، المتحدث باسم الحكومة «الإسرائيلية»: «المنطقة على صفيح ساخن، ونحن لن نسكت، وننسق مع أجهزة الاستخبارات في الدول الكبرى للقضاء على الإرهاب، وسوف نتدخل معهم لمحاربة الإرهاب حتى لو اندلعت الحروب، لنضمن حماية دولتنا».
إذن، تتحقق نبوءة هيلين توماس بأن «تل أبيب» وواشنطن وراء صناعة أسطورة «التنظيمات الإرهابية» في المنطقة لتشعل المنطقة والعالم، وتحرك الأنظمة نحو هدف واحد، وهو إعادة الترسيم وتوزيع النفوذ والغنائم، فماذا أنتم فاعلون؟!
_________________________
مدير تحرير «الشعب» المصرية، و«المجتمع» الكويتية- سابقاً.