في زمن لا يحسد الشباب على العيش فيه، حيث كثرة الملهيات، وشيوع التفاهات، تبرز أهمية القدوة كمثال حي يهيج في نفوس الشباب دوافع الخير، فيتطلع إلى أعلى درجات الكمال، ويتعلم ألا يقلل من قيمة نفسه، ولا يكثر من لومها، يتصرف على أنه إنسان عظيم في غير غرور وكبر، خلق لمهمة عظيمة تتمثل في عمارة الأرض بما فيها من كل ما ينفع الإنسان والبيئة والمجتمع.
ومن النماذج البشرية المشرقة التي تحيي في نفوس الشباب على وجه الخصوص الأمل، وتبعث فيهم الحماس؛ نموذج عبدالرحمن بن معاوية، أو عبدالرحمن الداخل الملقب بـ«صقر قريش»، ذلكم الشاب الفتي النقي التقي الذي نشأ مدللاً في قصر الحكم، ثم تدور عجلة الزمان، فتلاحقه المحن من كل حدب وصوب، لكنه استطاع أن يتجاوز كل الظروف الصعبة التي أحاطت به، ويقيم ملكاً عظيماً وسط ثورات دائمة، ومؤامرات متواصلة، وخصومات فاتكة بين القبائل المتناحرة في تلك البقعة البعيدة من الأرض.
على أنقاض الدولة الأموية، أسس العباسيون دولتهم، وأول ما قاموا به ملاحقة من كان مؤهلًا من الأمويين لتولّي الخلافة، فقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء، وأبناء أبناء الأمراء إلا قلّة ممن لم تصل إليهم أيديهم، وكان منهم عبدالرحمن بن معاوية؛ حفيد هشام بن عبدالملك بن مروان، الشاب الفتي الذي لم يكن يبلغ العشرين من عمره بعد، فقد قفز في نهر الفرات ورحل إلى مصر ومنها إلى أخواله في برقة بليبيا ومنها إلى بلاد المغرب، ومنها إلى الأندلس، وأعاد ملك بني أمية في بلاد الأندلس.
وبينما كانت بلاد العرب والإسلام خاضعة للدولة العباسية، كانت الأندلس وحدها تحظى بملك بني أمية بقيادة ذلك الشاب الفتي الذي تصح سيرته أن تكون باباً واسعاً من أبواب الإلهام لدى عموم الشباب، والرجال، ومن تصدر للقيادة والسيطرة والحكم!
لا شك حاول أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي العنيد أن يسقط حكم بني أمية في الأندلس، وأرسل الجيوش لتلك المهمة، لكنه لم يتمكن من ذلك، حيث أعمل عبدالرحمن الداخل سيفه في رقاب الجيوش المرسلة من قبل أبي جعفر وعلى رأسهم جيش القائد العسكري العلاء بن مغيث الحضرمي، لدرجة أن أبا جعفر دعا ربه قائلاً: الحمد لله الذي جعل بيني وبين عبدالرحمن البحر!
شعور مؤلم للغاية عاشه عبدالرحمن الداخل وهو ابن الثامنة عشرة؛ فقد مات أهله بعدما تعرضوا لإبادة جماعية على يد أول خليفة عباسي، ليجد نفسه وحيداً فريداً تلاحقه الأهوال من كل جانب، لا يدري كيف ينجو، ولا إلى أين يتوجه، والأعداء متربصون به من كل جانب، يرى بعينه شقيقه يذبح على ضفة النهر بينما كان هو في منتصفه ليوقن بعدها أن حياته القادمة إن استمرت سيخيم عليها الخوف والترقب همه الأكبر البحث عن الأمان!
كيف استطاع هذا الشاب الفتي أن يتجاوز آلام الفقد للأهل والأحباب، والاغتراب، ويستعلي على الخوف الذي تملك منه، فيمصر الأمصار ويجند الجند ويقيم ملكاً بعد طول انقطاع بحسن تدبير وشدة عزم؟
تربى عبدالرحمن تربية قويمة، فقد حفظ القرآن، وتعلم اللغة العربية، بدت عليه في وقت مبكر من عمره علامات الذكاء والنجابة، إذ كان مسلمة بن عبدالملك عم أبيه يرى أنه أصلح من غيره للولاية، وقد تحدث بذلك أمامه، الأمر الذي كان له أبلغ الأثر في نفس الطفل عبدالرحمن بن معاوية.
فكل ابن آدم بحاجة إلى الكلمة الطيبة والتحفيز والتشجيع باعتبار أن ذلك يمثل الداعم النفسي الذي يبعث على الإنجاز، وكل ابن آدم لديه القابلية للعمل والفعل لكن غياب الدافع قد يطفئ حماستهم.
والإنسان مهما بلغ من القوة والصرامة والحماسة ومهما اتسعت مذاهبه فليس ببالغ وجهته بين ركائز الحياة لولا الكلمة التي تبعث الأمل في الروح بشرط أن تخرج بإخلاص وصدق.. حينها ستسري في روح المتلقي فيستروح منها ما يروح عن قلبه.
ولقد كان من أعظم آثار التربية التي ترباها عبدالرحمن بن معاوية القوة النفسية الهائلة التي مكنته من الصمود في وجه كل العوائق والصعوبات، والجلوس على كرسي الحكم في بلد دخلها وحيداً، والتعامل بكياسة مع أعدائه فضلاً عن أصدقائه، فلقد ظل يدعو لأبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الكائن ببغداد على المنابر في دولة الأندلس، ورغم علمه بأن أبي الصباح اليحصبي زعيم اليمنيين في بلاد الأندلس يريد قتله والتخلص منه، فإنه لم يعزله إلا بعد مرور أكثر من عشر سنوات مخافة أن يحدث تفرقاً وتشرذماً للمسلمين فتضعف هيبتهم أمام النصارى.
ولهذا لما جلس أبو جعفر يوماً بين رجالات قصره، وسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟
فقالوا له في نفاق اعتاد عليه رجال القصر في الغالب: هو أنت، فقال لهم: لا!
فشرعوا في ذكر بعض الأسماء من نوعية معاوية، وعبدالملك بن مروان وغيرهما، فكانت إجابته: لا.
ولما عجزوا قال لهم: بل هو عبدالرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفردًا بنفسه، مؤيّدًا برأيه، مستصحبًا لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلدًا أعجميًا فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه.
ولم أجد وصفاً أبلغ من وصف بن حيان لعبدالرحمن الداخل، فقد وصفه بالأوصاف التالية: «كان عبد الرحمن راجح الحلم، راسخ العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعَة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الْغَوْرِ، شديد الحدَّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويُؤْثِره، وكان قد أُعْطِيَ هيبة من وَلِيِّه وعدوِّه، وكان يحضر الجنائز، ويُصَلِّي عليها، ويُصَلِّي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى.