أثارت معركة طوفان الأقصى العديد من التساؤلات والنقاشات التي لم ينطفئ أوارها، ولم يخمد لهيبها، وانتظمت هذه النقاشات في سجالات عقدية وفكرية وثقافية لا تقل ظهوراً عن السجالات السياسية والأمنية والإستراتيجية.
وقد تعددت قراءات هذه المعركة وغلب عليها القراءات الجزئية المفْرِطة تارة بحيث لا تلحظ إلا الخير، والمُفَرِّطة تارة أخرى بحيث لا تلحظ إلا الشر، وضاعت القراءة الوسطية المنشودة التي تفقه أمر الله على بصيرة بين تلك القراءتين، ما أربك العقل المسلم المعاصر لهذه النازلة، وخصوصاً الشباب الذين أبدوا وعيا واستعداداً غير مسبوق في هذه المعركة، إلا أن أسئلتهم كانت الأكثر إلحاحاً ومثولاً، ولم تكن الإجابات المقدمة لهم بنفس حرارة الأسئلة ولا بقدر جديتها.
وتلحظ القراءة الجامعة المنشودة كلاً من الدنيا والآخرة، والماضي والحاضر والمستقبل، والبعدين: المادي والمعنوي، وتبصر الواجب الشرعي في إطار فقه الموازنات والأولويات وفقه السنن والعمران، وتعاين إرادة الفاعلين في المستويات المحلي والإقليمي والدولي، دون أن تذهل عن طلاقة القدرة الإلهية.
تقارب هذه المقالة معركة طوفان الأقصى في ضوء مفهوم لم يأخذ حقه من الحضور في التأصيل والتنزيل، ونحسب أنه يفتح نافذة مهمة على إرادة الله التي لا تقيدها سنة مخلوقة ولا ناموس مصنوع ولا قانون موضوع، وهو ما من شأنه أن يحفظ إيمان المكلفين أثناء سعيهم في تحصيل الأسباب، ويعزز يقينهم وهم يتساءلون عن كيفية تحقق الموعود، ويرشد تفكيرهم بعيداً عن المنظور الغربي الذي ينكر الإرادة الإلهية، ويستبعد الوحي، ويقف عند الظواهر.
مفهوم أمر الله في السياق القرآني:
من المفاهيم التي تتردد كثيرا في القرآن الكريم: أمر الله، ويرد هذا الأمر بمعنيين: أحدهما: الأمر الشرعي أو التكليفي، ومعناه تكليفه، ومثاله قوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات: 9]، وقوله تعالى: { ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } [الطلاق: 5].
والثاني: الأمر الكوني، ومعناه قضاؤه وتقديره، ومثاله قوله تعالى: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 106]، وقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1].
وحديثنا هنا منصب على أمر الله القدري الكوني.
وقد ورد هذا الأمر على أنحاء في القرآن الكريم، ومن الأمثلة عليه قول الله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]، وقوله تعالى: { وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} [التوبة: 48]، وقوله تعالى: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33]، وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50 ]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق: 3]، وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق: 8]، وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } [الأحزاب: 38]، وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } [الأحزاب: 37]، وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} [غافر: 78]، وقوله تعالى: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } [الحديد: 14]، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ } [يونس: 24].
أمر الله بين طوفان نوح وطوفان الأقصى:
تكرر الحديث عن أمر الله تعالى في القرآن الكريم في عديد القصص القرآني في إشارة لافتة إلى أهمية تذكار أتباع الرسل في كل عصر لأمر الله، وتأكد تبصره وهم يخوضون معاركهم ضد الظلم والطاغوت، وتحتم ملاحظتهم ألوان تحقق الانتصار بهذا الأمر، والذي ينزل تارة بالخير للمؤمينن، وتارة بالهلكة على أعدائهم.
فبعدما صبر نوح عليه السلام والقلة المؤمنة معه 950 سنة جاء أمر الله، كما قال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]، وتمثل أمر الله في قصة نوح عليه السلام طوفاناً أخذ معه كل الطغاة والساخرين، كما أخذ معه أولئك الذين أساءوا التقديرات ظانين محدودية الأمر الإلهي فتذاكوا وتحايلوا، كما قال تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود: 43].
ثم تنزل أمر الله ريحاً صرصراً عاتية في قصة هود مع قوم عاد كما قال تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]، وصاعقة في قصة صالح مع قوم ثمود كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [هود: 66]، وصيحة في قصة شعيب مع قوم مدين كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [هود: 94]، وحجارة من سجيل في قصة لوط مع قومه كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 82، 83]، وجاء في التعقيب على قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101].
والملاحظ أن سورة هود حبلى بالحديث عن أمر الله، وملأى بتبيان صور تنزله في واقع الأمم والدعوات.
وسورة هود نزلت بعد سورتي يونس والإسراء في أشق المراحل التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم بسبب فقد الظهير الداخلي خديجة رضي الله عنها، وفقد النصير الخارجي: أبي طالب، فتجرأ المشركون ما لم يتجرؤوه من قبل فازداد بطشهم وتعاظم مكرهم حتى ندر الداخلون في الإسلام، إلى أن منّ الله على رسوله ببيعة العقبة الأولى والثانية التين سبقتا الهجرة إلى المدينة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: شيبتني هود وأخواتها، لما فيها من أهوال القيامة وأحوال الأنبياء والأمر بالاستقامة حتى قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، يعني قول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، ونحسب أن التعقيب على الأمر بالاستقامة بقول الله تعالى: { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ } [هود: 116] ذو دلالة مهمة على أسباب الاستقامة ومقومات الثبات على الطريق، وهي هنا بالتدبر في ثمن الإيمان بصدق الفكرة، وثمرة اليقين بحسن العاقبة من خلال تجارب الأنبياء من قبل.
ويشبه الواقع الذي نزلت فيه هذه السور واقع المعركة اليوم في فلسطين حيث عز الظهير وغاب النصير واشتد الكرب وعظم البلاء، فيكون التأمل في قصص الأنبياء من قبل مادة للتفقه الإيماني، والتبصر السنني، وسلوى للمكلومين والمخذولين، ووسيلة للتثبيت وتعزيز اليقين كما قال تعالى في ختام سورة هود: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) } [هود: 120-123]، فالأمر كله يرجع إلى الله كما تشهد به هذه القصص المبثوثة في الكتاب العظيم.
قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ..
حينما جاء الملائكة ضيوفاً على إبراهيم عليه السلام وكان يبلغ من العمر قريباً من 120 سنة بشروه وزوجه سارة والتي كانت تبلغ قريباً من 100 سنة بالولد، وحينما أخبرت سارة بهذا الأمر تعجبت أشد العجب وقالت: {يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [هود: 72]، فقالت لها الملائكة حينئذٍ: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73].
قال المفسرون: إن الملائكة أنكرت عليها بتعجبها من ولادتها مع كبرها في السن؛ لأن ما عرف سببه لا يتعجب منه، والله تعالى قادر لا يعجزه شيء، ولأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهى سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وعلل إنكار التعجب بالرحمة كأنه قيل: إياكِ والتعجب، فإنّ أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم.
وينبغي لقادة المقاومة أن لا يتعجبوا من تعجب أنصار المقاومة اليوم إذا تساءلوا عن كيفية تحقق المقصود، وتجسد الموعود، إذ يعسر على العقول تصور انبلاج الصبح وقد تداعت أركان دولة الاحتلال، وتهاوى دعمها الدولي، وتصدعت تحالفاتها الإقليمية، وينبغي لهم أن يردوا المتسائلين إلى سنة الله تعالى في قوى الاحتلال في التاريخ، وقضاء الله في شوكة دول الطغيان في الماضي، كما ينبغي لهم أن يصرفوهم لتذكار لطف الله المعهود فيهم وفي نظرائهم من الآمرين بالقسط، والقائمين بالحق، ينجيهم تارة بالعصا ينفلق بها البحر، وتارة بالسفين تحملهم على الطوفان، وتارة بالملائكة ينزلون مسومين ومردفين ينزلون بالبشرى، وينشرون السكينة.
وإذا كان تعجب سارة يحمل السؤال عن الكيف مع اليقين التام بقدرة الله تعالى نظير قول زكريا عليه السلام: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } [آل عمران: 40]، أي في هذه الحال، فإن تعجب المهزومين والمخذلين اليوم في معركة طوفان الأقصى من نوع مغاير، يتضمن إنكار فاعلية الإرادة الإلهية في نوازل الأمم، والسخرية باليقين بالوعد الرباني في مخبآت الغيوب.
وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ..
حينما زارت الملائكة لوطاً عليه السلام في هيئة ضيوف من الشبان ضاق ذرعاً بقومه وتمنى قائلاً: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [هود: 80]، وهنا فاجأه أمر الله بأن من يريد حمايتهم هم من قدر الله لهم أن يحموه، ومن تفجع للقيام على أمرهم إذ بهم هم القوام على أمره ومن معه من المؤمنين، ولذا ورد في صحيح البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لقَدْ كانَ يَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ”.
وفي الوقت الذي كان يمني فيه قوم لوط نفسهم بقضاء مآربهم، وتحقيق أغراضهم إذ بأمر الله يفاجئهم ويفسد عليهم خططهم.
وهكذا أمر الله قد يبدو بعيداً وهو في متناول اليد وفي لحظ العين، ووحدها البصيرة من تكشف الحجب لمن يخوضون المعارك الكبيرة أن أمر الله بنصرهم قريب وإن فدح الثمن وعظم الغرم.
وحكاية لوط مع قومه ليست استثناء، بل هي سنة جارية مع الظالمين؛ ولذا تذيلت القصة بقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 82، 83].
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ..
قصة يوسف هي مثال للتضاد بين أمرين: أمر الله وأمر البشر، فبينما أكمل إخوة يوسف مكرهم وأحكموا أمرهم وظنوا أن يوسف يستقبل الغياب، وينتظر الأفول، كان أمر الله بهبة بالملك له، وإلجائهم إليه، وسجودهم له على عتبات عرشه، وهذا سر التعبير بالتمكين له في الأرض بعد الحديث عن بيعه بدراهم معدودة كما قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) } [يوسف: 20 – 22]، فقد أرادوا أمراً كما قال تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18]، وأراد الله أمراً آخر، فنفذ أمر الله تعالى وغلبت إرادته وظهرت قدرته، واضطرب أمرهم وبطل كيدهم وخاب مكرهم، وقليل من استقرت في صدورهم هذه الحقيقة، وقليل من هذا القليل من تثبت في نفسه في أوقات البلاء العظيم كما هو الحال في طوفان الأقصى حيث عظم الكرب واشتد الخطب.
إن القراءة المجتزأة لقصة يوسف عليه السلام ومكر إخوته له تظهر لنا نجاحهم في تهجيره من الديار والأوطان، وحرمانه من الأب والأم، والصديق والقريب، والجار والحبيب، وإفساد لحظاته الجميلة، وذكرياته الخالدة، ولكن القراءة الكلية لها تجلي أن الله تعالى سيمنحه وطناً جديداً مع وطنه، وسيضم له أرضاً بحجم مصر إلى أرضه الصغيرة في فلسطين، وشعباً بحجم شعب مصر إلى أسرته المكونة من 13 فرداً، وسيجعله عزيزاً مكرماً مهاباً في عصره.
وهكذا غلب أمر الله أمر إخوة يوسف، وهكذا هو أمر الله دوماً يغلب كل الإرادات مهما ظهر لنا علوها وشدة مكرها، ولذا جاء التعقيب في ختام قصة يوسف مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102].
إن المعترك بين إرادة الله وإرادات أعداء الله محسوم النتيجة، ومعروف العاقبة، ومحتوم المنتهى، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]، أي: يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء، وكما قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } [الأحزاب: 38]، أي: مقضيا وكائناً لا محالة، وكما قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } [الأحزاب: 37]، أي: لا راد لحكمه ولا ناقض لأمره، كما يقال في الشيء الذي لا شك في حصوله: هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد.
ولكن الغباء كل الغباء والجهل كل الجهل أن يظن الماكرون أنهم وحدهم الذين يبرمون الأمور، ذلك أن الله تعالى يقول: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف: 79].
حتى يأتي أمر الله وهم كذلك..
إن أمر الله هو بشرى المرابطين اليوم في الأرض المقدسة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم القائل: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك».
وإن أمر الله تعالى آت لا محالة، وكائن لا ريب، وهو مطلق القدرة كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50 ]، وكما قال: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]، فيتنزل بحسب ما تقتضيه حكمة الله وما تحصل عندها من مصالح للمؤمنين، وهو إذا تعجل فإنما يتعجل لحكمة تحصل عندها مصلحة المؤمنين، وإن تأخر فلحكمة تجلب معها منافع للأمة، ففتح مكة أمر الله تأخر عشرين سنة عن البعثة النبوية على سبيل المثال، وفتح بيت المقدس تأخر 28 عشرين سنة منها، وفتح القسنطينية تأخر 870 سنة منها، وفتح روما لم يحصل بعد. وهذا التقديم والتأخير لا ينبغي بحال من الأحوال أن ينحت من يقين المؤمن بطلاقة القدرة الإلهية وهو ما أخبر الله به مريم إذ تضع ولدها بلا أب، فقالت لها الملائكة: { قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21].
وإذا وقع أمر الله فلا عجب منه مهما بدا ثبات السنن في الكون، فنحن وإن أمرنا برعايتها إلا أنها هي الأخرى مخلوقة، بل إن اعتبارها هو الآخر لا ينفي طلاقة الفعل الإلهي الذي يقضي بالعاقبة للمؤمنين، فلم يكن أخذ يوسف بالأسباب مانعاً من إفاضة الله العطاء عليه بما هو أكبر من خطته، وأعظم من مراده، فاستجابته بالخروج من الجب مع القافلة، وتسليمه لبيعه بدراهم معدودة، وعدم معارضته لاتخاذه ولداً من قبل العزيز لا يفضي إلى ما خبأته الأقدار له، ولذا وصف يوسف ما أكرمه الله به بالهبة والإيتاء إذ قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: 101]، ومن الأمثلة عليه كذلك قول الله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، وقوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } [الأنفال: 44]. بل إنّ هذه السنن نفسها هي الأخرى مخلوقة، وفاعلة بالجعل الإلهي، فلا تقف حائلاً دون يقين المؤمن بطلاقة قدرة الله، كما فاجأ الخليقة في قصة إبراهيم بهبوب النسيم وحصول الانتعاش رغم وجود موجبات الاشتعال والاتقاد للنار العظيمة التي أشعلوها لحرقه.
وإنه مهما زها الباطل بإعلان أمره وتفاخر بنفاذ إرادته وتبجح بإحكام خطته وكأنه الفاعل الوحيد في الكون الذي لا يغلب أمره، فهو مغلوب لا محالة، وخاسر لا ريب وصاغر لا شك في ذلك، وهنا يمتاز المنظور الإسلامي الذي يوقن بالغيب ويؤمن بالوحي عن المنظورات الأخرى.
وبحسب هذا المنظور فإنه لا يقع في هذا الكون إلا ما يأذن الله به، بما فيها ما يحصله الأعداء من انتصارات ومكاسب جزئية مؤقتة، وهي لن تكون إلا وبالا عليهم لمضادتهم أمر الله التكليفي كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]، وأما ما يفقده المؤمنون من خسائر مؤقتة وجزئية فلن تكون إلا خيرا لهم، وهذا ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم القائل: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له».
وقد أكرم الله تعالى أمة سيد الأنبياء بأن جعل أمر الله يقع بأيديهم كما كان يتحقق بأيدي الملائكة في الأقوام السابقة، ويحيق العقاب بأعدائهم بنصالهم ورماحهم كما كان يتنزل صيحة وعاصفة وريحا صرصراً في تجارب الأمم من قبلهم، كرامة من الله تعالى لهم كما قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس: 28]، وكما قال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)} [الأنفال: 17، 18]، فهنا يتلاقى أمر الله الكوني بإبطال كيد الكافرين، مع امتثال المؤمنين أمر الله التكليفي بجهادهم وقتالهم.
وختاماً أقول: إنّ أمر الله إذ ينتظر المرابطين في الأرض المقدسة بالنصر والظفر فإنه ينتظر المعوقين ويتربص بالخاذلين كذلك، ولن تنفعهم حينئذ الأوبة، ولم ينجيهم يومئذ الندم، وإني أحذرهم قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أستاذ السياسة الشرعية وأصول الفقه المساعد في كلية الإلهيات بجامعة “وان” بتركيا، والباحث في فقه القضية الفلسطينية.