حكى ابن الجوزي، في كتابه «صفة الصفوة»، أن الصحابي الجليل أبا الدرداء رضي الله عنه مرّ على رجل قد أصاب ذنباً، فكانوا يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال رضي الله عنه: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي.
وفي أحد دروس الشيخ محمد الغزالي سأله شاب عن حكم تارك الصلاة؟ وعلى ما يبدو أن هذا الشاب كان يتوقع وربما يريد فتوى بتكفير تارك الصلاة، ولحكمة الشيخ الغزالي ووعيه بدوافع الشاب للسؤال رد عليه بالقول: «حكمه أن تأخذه معك إلى المسجد»، وحكمة هذا الرد هو تمامًا ما تتطلبه الأوضاع اليوم، حيث بات التكفير بالمعصية والتفسيق والتبديع واستحلال دم وقتل من يتم تكفيرهم وتفسيقهم وتبديعهم حتى وهم بالمساجد فكرًا منتشرًا لدى من يتلبسون بلباس التدين؛ فجاء رد الشيخ الغزالي ينبه ويوجه وعيهم؛ لأن هناك سبيلًا لمعالجة وإصلاح كل أوجه الخلل بالطريقة القرآنية والسُّنة النبوية، وهي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.
فخطاب التطرف يحسنه حتى الجاهل، بينما خطاب الحكمة لا يحسنه إلا الراسخ في العلم؛ مثل أبي الدرداء، والغزالي.
ومنهج أبي الدرداء رضي الله عنه، والشيخ الغزالي رحمه الله، في الدعوة فيه إشارة إلى ضرورة النظر بعين الرحمة والشفقة إلى من يرتكب بعض الذنوب والأخذ بيده إلى طريق السلامة بدل أن يشتم ويسب وينفر من الدين؛ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159).
ادعهم بالتي هي أحسن
وهذا الفقه الدعوي الذي تحلّى به الغزالي وتعامل في العصر الحديث هو الفقه نفسه الذي تحلّى وتعامل به الصحابي الجليل أبو الدرداء في العصر الأول هو ما علمه وعمل به إمام دعوتهم ومربيهم وأستاذ مدرستهم الذي ارتشفوا من سيرته وسُنته هذا المنهج الرباني في الدعوة، محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
وقد نقلت السيرة صورًا عملية له عليه الصلاة والسلام في لينه وتبشيره في فقه الدعوة.
قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره: فإنه يعني بـ«الفظ» الجافي، وبـ«غليظ القلب» القاسي القلب، غير ذي رحمة ولا رأفة، وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم، كما وصفه الله به: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128).
فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك «لنت لهم»، لأتباعك وأصحابك، فسُهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك.
ومن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم التي تحلّى بها في الدعوة إلى الله خُلُق الرحمة والرأفة بالغير، تلكم الرحمة التي شملت الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وإذا كان الناس عامة بحاجة إلى الرحمة والرعاية، فإن الذي زلَّ ووقع في المعصية بحاجة خاصة أن نأخذ بيده لا أن نتركه يقع على الأرض، أو نهيل عليه التراب، أو ندعو عليه باللعنة فنكون عونًا للشيطان عليه، بل ربما ترتد هذه اللعنة وتعود على منْ لَعَن، إن لم يكن الملعون مستحقًا لهذا اللعن.
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتُغلق أبوابُها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغًا رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان لذلك أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها» (رواه أبو داود)، قال المناوي في «فيض القدير»: «اللعن: طرد عن رحمة اللّه، فمن طرد ما هو أهل لرحمته عن رحمته فهو بالطرد والإبعاد عنها أحق وأجْدر، ومحصول الحديث التحذير من لعن من لا يستوجب اللعنة والوعيد عليه بأن يرجع اللعن إليه، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ) (آل عمران: 13)».
والسيرة النبوية فيها من المواقف الكثير التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن لعْنِ أحَد، وإن كان هذا الملعون عاصيًا، ومن هذه المواقف ما كان مع الصحابي الذي كان يشرب الخمر ونهى الصحابة عن لعْنِه رغم شربه للخمر وإقامة الحدِّ عليه.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً على عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبدالله، وكان يُلَقَّبُ حِمَاراً، وكان يُضحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قدْ جلدَه في الشَّراب (الخمر)، فأُتيَ به يوماً فأمَرَ بِهِ فجُلِدَ، فقال رجلٌ مِن القوم: اللَّهُمَّ العَنْه، ما أكثر ما يُؤتَى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَلْعَنُوه، فوالله ما عَلِمْتُ إلَّا أنه يُحِبُّ اللهَ ورسولَه» (رواه البخاري)، وفي رواية، قال صلى الله عليه وسلم لمن لعَنَه: «لا تلعنْه فإنه يحبُّ اللهَ ورسولَه».
قال ابن حجر: في هذا الحديث من الفوائد جواز التلقيب، وهو محمول هنا على أنه النعيمان كان لا يكرهه «يُلَقَّب حِمَارًا»، وقال ابن تيمية: هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن -عمومًا- شارب الخمر، ونهَى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المُعَيَّن؛ لجواز تخلف المُقتضِي عن المُقتضَى لمعارض راجح، إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة، وإما شفاعة مقبولة.
هذا هو فقه الدعوة في سيرة إمام الدعاة محمد صلى الله عليه وسلم ومن نهره الصحابي أبو الدرداء وعلى نهجه الشيخ الغزالي يرتشفان.
وما أحوج الأمة اليوم إلى إحياء فقه الدعوة النبوي، فقه التبشير لا التنفير، وفقه التيسير لا فقه التعسير.
___________________________
كاتب وباحث في الدراسات الإسلامية.