لقد وهب الله عز وجل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم نعمة انشراح الصدر، حيث قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح: 1)، ويعطي الله تعالى انشراح الصدر لمن يشاء من عباده، فهي نعمة عظيمة، حيث قال تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الزمر: 22).
ومما يدل على أهميتها أن الله تعالى يجعلها ثمرة الهداية إلى الصراط المستقيم، فقد قال عز وجل: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: 125).
كما بيّن سيدنا موسى عليه السلام أهمية هذه النعمة، حيث أكد أنها أول معين على مصاعب الحياة، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك حين أمر الله موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون يدعوه إلى الله، حيث قال الله تعالى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {24} قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (طه).
وعندما ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه وأذيتهم، قال الله تعالى له: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر)، ففي الآيات دليل على أن العبادة تزيل ضيق القلب، وتفيد انشراح الصدر.
وقد تعددت أنواع العبادة التي تسهم في شرح الصدر، ومنها: الصلاة والصدقة والذكر والدعاء والتوبة والمداومة على العبادة، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: الصلاة:
تسهم الصلاة في علاج ضيق الصدر وتحقيق انشراحه، حيث يقول سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ)؛ أي: المصلين، فإنك إذا فعلت ذلك كشف الله همك وأذهب غمك وشرح صدرك(1)، وقد عبر سبحانه وتعالى بالسجود لأن السجود يمثل حالة القُرب من الله تعالى، فإذا دامت هذه الحالة فإن الله يحفظ صاحبها من السوء، ويكفيه همه، ويشرح صدره، حيث يقول تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً {21} إِلَّا الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) (المعارج).
فالإنسان إذا مسه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب، وإذا مسه الخير بخل ومنع حق الله تعالى إلا من عصمه الله ووفقه وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه وهم المصلون، الذين يحافظون على أوقات الصلاة وواجباتها، ويداومون على السكون والخشوع والطمأنينة فيها(2)، وفي هذا تأكيد على أن دوام أداء الصلاة واتخاذها وسيلة إلى القرب من الله تعالى هو العلاج النافع لما يصيب الإنسان من ضيق الصدر.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلّى(3)؛ أي نزل به أمر مهم أو أصابه غم أو حزن صلّى(4)، فالصلاة من عوامل ذهاب الهم والغم والحزن.
ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بلال، أرحنا بالصلاة»(5)، فقد كان اشتغاله بالصلاة راحة له، فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً، فكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى.
وقد أثبتت الدراسات النفسية أن الصلاة تبعث في الإنسان حالة من الهدوء والراحة، ولهذه الحالة أثرها العلاجي المهم في تخفيف حدة التوترات العصبية الناشئة عن ضغوط الحياة اليومية(6)، فالصلاة تسهم في علاج التعب وضيق الصدر، وهي من عوامل تحقيق الراحة والطمأنينة للإنسان.
ثانياً: الصدقة:
تؤدي الصدقة إلى انشراح الصدر، ففيها لذة العطاء، والإشارة إلى الكرم والسخاء، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم دورها في شرح الصدر، وذلك حين قال: «مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع»(7)؛ والمعنى أن الجواد الكريم إذا هم بالنفقة انشرح لذلك صدره وطاوعته يداه فامتدتا بالعطاء، وأما البخيل فإذا حدث نفسه بالصدقة ضاق صدره وانقبضت يده.
وفي هذا دليل على أن البخل لا يجلب لصاحبه إلا الضيق والهم والحزن والغم، فالبخيل أسيرٌ مقيد بأغلال الطمع والحرص والجشع، أما الإنفاق فهو سبيل الانشراح ورفع الضيق، فالمتصدق حُرٌ طليق، ومن الضيق عتيق، وهو سعيد بخير طريق. وقد كان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً، فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدر(8)، وهكذا يتبين أن الصدقة تسهم في علاج ضيق الصدر، وتؤدي إلى طِيب النفس ونعيم القلب.
ثالثاً: ذكر الله تعالى:
يُعَد ذكر الله تعالى من السبل التي تؤدي إلى انشراح الصدر، حيث قال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ)، فقد أعلمه الله بما يزيل ضيق الصدر والحزن، وذلك أمره من التسبيح والتحميد والصلاة، وفي الآيات دليل على أن المسلم يجب أن يتحمل الأذى مستعيناً بالسجود والتسبيح، فهما زاده في مواجهة المحن والابتلاءات، حيث إن الصلاة والأذكار من تسبيح وتحميد وتهليل كفيلة برفع المعنويات، وثبات القلب، وقوة العزيمة، ومواصلة الجهاد الدّعوي إلى الله وحده.
وقد بيّن سبحانه وتعالى أن القلوب المؤمنة تطمئن بذكر الله تعالى، حيث قال عز وجل: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)؛ فقد بيّنت الآية أن سبب الطمأنينة نور يفيضه الله تعالى على قلوب المؤمنين بسبب ذكره فيذهب ما فيها من القلق والوحشة ونحو ذلك.
فالذكر سبيل إلى طمأنينة القلب وشرح الصدر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم»(9)، فإذا أصيب المسلم بضيق الصدر وجب عليه أن يلجأ إلى ذكر الله تعالى، حيث إن الذكر له تأثير عجيب في انشراح الصدر ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه(10)، فعلى المسلم أن يداوم على ذكر الله تعالى، وأن يتخذ من هذا الذكر زاداً يستعين به لانشراح صدره.
رابعاً: الدعاء:
الاعتقاد بأن الله تعالى هو الذي يملك مقاليد الأمور، وأنه النافع والضار والمجيب لمن دعاه؛ يجعل المسلم يتوجه إليه بالدعاء أن يمده بالوقاية من ضيق الصدر، وإذا كان مجرد إفضاء الإنسان بمشكلاته وهمومه والتعبير عنها إلى شخص آخر يسبب له راحة نفسية؛ فما بالنا بمقدار التحسن الذي ينشأ إذا أفضى بمشكلاته لله تعالى، وهو يعلم أن الله يجيب من دعاه، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، فالأمل في استجابة الله تعالى للدعاء يخفف من كرب المؤمن وهمه، ويمده بقوة تعينه على التحمل والصبر، وتبث فيه الشعور بالراحة النفسية.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء سبيل إلى الوقاية من ضيق الصدر وعلاجه، فكان من دعائه أن يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل»(11)، وإذا وقع المسلم في الضيق أو أصابه الهم والغم؛ توجه إلى الله تعالى بالدعاء والاستغاثة أن يرفع عنه هذا الضيق، فمن فعل ذلك شرح الله صدره، وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما قال عبد قط إذا أصابه هم وحزن: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه، وأبدله مكان حزنه فرحاً»(12)، وفي هذا تأكيد على أن المهموم إذا دعا ربه استجاب الله له، وأبدل همه فرجاً وضيقه انشراحاً وعسره يسراً.
خامساً: التوبة والاستغفار:
من السبل التعبدية لانشراح الصدر: التوبة والاستغفار، فالشعور بالذنب لا يُذهبه إلا اليقين بالمغفرة، وقد وعد الله تعالى بالمغفرة والثواب الجزيل من تاب واستغفر من الذنوب، وذلك في قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {135} أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران)، فإذا وقع في الخطأ وضاق صدره بسبب الشعور بالذنب؛ وجب عليه أن يعالج ذلك بالمسارعة إلى التوبة والاستغفار، فالتوبة تبعث فيه الأمل في النجاة من العذاب، والفوز بمغفرة الله تعالى ورضوانه، فيتخلص من شعوره بالذنب الذي يقلقه ويسبب له كثيراً من الآلام النفسية.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستغفار الدائم يسهم في تفريج الهموم، والخروج من الضيق، فقال: «مَن أكثَر من الاستغفار جعَل الله له من كل هّم فرجاً، ومِن كل ضيق مَخْرجاً، ورَزَقه مِن حيثُ لا يحَتْسِب»(13).
فالمداومة على الاستغفار سبيل إلى مواجهة الهموم والضوائق، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»(14)، والمراد بالغين في الحديث إصابة القلب بالضيق، وسبب الضيق: همه بسبب أمته وما اطلع عليه من أحوالها، وفي الحديث دلالة على أن المسلم المهموم بأمر يجب عليه أن يكثر من الاستغفار، فهو سبيل إلى انشراح الصدر.
سادساً: المداومة على العبادة:
يعد الثبات على العبادة حتى الممات من العوامل المهمة التي تسهم في علاج ضيق الصدر، حيث قال الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 99)، واليقين: الموت؛ أي: اعبد ربك حتى يأتيك الموت، والمراد استمرار العبادة مدة حياته.
فقد أمر الله تعالى بالمواظبة على العبادة وعدم الإخلال بها حتى الممات، ومن أسباب ذلك أن العبد إذا أتى بهذه العبادات يضاء باطنه ويشرق قلبه، وينفسح وينشرح صدره، فعند ذلك يعرف قدر الدنيا وحقارتها فلا يلتفت إليها، ولا يتأسف على فواتها فيزول الهم والغم والحزن عن قلبه.
وفي هذا توجيه إلى المحافظة على العبادة والمداومة عليها، فالممارسة الدائمة للعبادة تعلم المؤمن الطاعة لله تعالى، وامتثال أوامره، وتحمل المشاق، ومجاهدة النفس والتحكم في أهوائها وشهواتها.
وكل هذه صفات حميدة توفر له مقومات الصحة النفسية السليمة، كما تمده بالوقاية من المشكلات النفسية(15)، وفي هذا تأكيد على أن المسلم لا ينبغي أن يتخلى عن عبادته أو يتثاقل عن أدائها، إنما يجب عليه أن ينتظم في سلك العابدين، وأن يثبت على طريق المؤمنين، حتى يأتيه اليقين، ففي هذا إرضاء لربه، وانشراح لصدره.
_____________________________
(1) فتح القدير، الشوكاني (3/ 173).
(2) تفسير ابن كثير (8/ 241).
(3) أخرجه أبو داود (1319).
(4) عون المعبود شرح سنن أبي داود، العظيم آبادي (4/ 142).
(5) مسند أحمد (23087).
(6) القرآن وعلم النفس، د. محمد عثمان نجاتي، ص 285.
(7) متفق عليه، أخرجه البخاري (1375)، ومسلم (1021).
(8) زاد المعاد، ابن قيم الجوزية (2/ 22).
(9) أخرجه البخاري (5986).
(10) زاد المعاد، ابن قيم الجوزية (2/ 24).
(11) أخرجه البخاري (6008).
(12) مسند أحمد (4316).
(13) مسند أحمد (2234)
(14) أخرجه مسلم (2702).
(15) القرآن وعلم النفس، د. محمد عثمان نجاتي، ص 284 – 285.