لئن نلتَ إرثك من والديك أو أحدهما، وأنلتَ أختكَ إرثها بنفس راضية، وضمير قرير فقد تسرَّبَ ضوء الإسلام الباكر من قلب الأمين صلى الله عليه وسلم إلى قلبك..
أمَّـا هذا الذي آثر نفسه بالإرثِ كلِه، وكانت أخته يقينة أنها لا تُسام في رحابه خسفًـا، ولا ضيمًا(1)، له أن يعلم أن فعلته كانت تقليدًا من تقاليد الجاهلية جبَّه(2) العدل الإسلامي لمَّا غمر الأرض ونفوس البشر، وأنه أحد اثنين:
– إمَّـا جاهليّ!
– وإمَّـا مسلم فشت المعصية في نفسه، فردَّ على الله عز وجل شرعه، وأرجع على الرسول صلى الله عليه وسلم حكمه.
وأنتِ، أيتها الأخت المباركة، إذا استلمتِ عقد إرثكِ بيمينكِ، واستقبلتيِهِ بوجهكِ راضية مرضيَّة، فاعلمي أن من بين الذين يدينونكِ شكرًا وعرفانًـا فتاتين.
فهلمِّي نتعرف على وقائع الحدث الذي انتظم ميثاقًا إلهيًا يضمن لكِ إرثكِ، وإليكِ الحدث بشخوصِه.
فتاتان ضنَّ علينا التاريخ بذكر اسميهما، حتى اسم أبيهما اخْتُلِفَ فيه، وأرجحت المصادر أنهما بنتا الصحابي الجليل سعد بن الربيع رضي الله عنه، وإن أحدهما هي أم سعد بنت سعد بن الربيع، ولكنها أجمعت على أن الصحابية الحكيمة أم كُجَّة الأنصارية كانت أحد أطراف الحديث، وإليكم الحدث بشخوصه.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: جاءت أم كُجَّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنتين قد مات أبوهما، وليس لهما شيء(3)، فأنزل الله عز وجل: (لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ) (النساء: 7)، ثم أنزل عز وجل: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء: 11).
وفي رواية أخرى أيضاً عن جابر بن عبدالله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع(4) بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قُتِل أبوهما معك يوم «أُحد» شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا إلا أخذه، ولا تُنكحان إلَّا ولهما مال، فقال صلى الله عليه وسلم: «يقضي الله في ذلك»، فنزلت آية المواريث؛ يعني: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً {11} وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (النساء).
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمِّهما، فقال: «أعطِ ابنتي سعد الثُّلثينِ، وأمَّهما الثُّمن، وما بقي فهو لك»(5).
ألم أقل للأخت المباركة: إذا استلمتِ عقد إرثكِ، فاعلمي أن من بين الذين يدينونك شكراً وعرفاناً فتاتين هما ابنتا سعد بن الربيع رضي الله عنه(6)، ذلكم الصحابي الذي كان له في يوم «أُحد» خبر، أشرق في بطون الكتب كما لم يشرق خبر آخر، خبر تُطلق روعته خواطرنا، ويفيضها شجنه، لذا أستميح الجميع عذراً في التعرف عليه سريعاً كما أوردته الآثار الأمينة.
فعن يحيى بن سعيد، قال: لمَّا كان يوم «أُحد»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «من يأتيني بخبر سعد بن الربيع؟»، فقال رجل: أنا يا رسول الله، فذهب يطوف في القتلى، فقال له سعد: ما شأنك؟ قال: بعثني رسول الله لآتيه بخبرك، فقال سعد: فاذهب إليه فأقرئه مني السلام، وأخبره أني طُعنت اثنتي عشرة طعنة، وأني قد أنفذت مقاتلي، وأخبر قومك أنهم لا عذر لهم عند الله إن قُتل رسول الله وأحد منهم حي(7).
وقال ابن الأثير: قيل: إن الرجل الذي ذهب إليه هو أُبَيّ بن كعب، قاله أبو سعيد الخدريّ، وقال له: قل لقومك: يقول لكم سعد بن الربيع: الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله ليلة العقبة، فوالله ما لكم عند الله عذر إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، قال أُبيّ بن كعب: فلم أبرح حتى مات، فرجعت إلى رسول الله فأخبرته، فقال: «رحمه الله، نصح لله ولرسوله حيًا وميتًا»(8).
ودفن سعد بن الربيع هو وخارجة بن أبي زهير في قبر واحد رضي الله عنهما.
وقد أفصح الحافظ بن حجر عن اسم إحدى ابنتي سعد بن الربيع في خبر يفيض بمزيج من رُوَاء(9) التواضع، وروعة إنزال الناس منازلهم، جاء فيه: عن أم سعد بنت سعد بن الربيع أنها دخلت على خليفة رسول الله أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فألقى لها ثوبه حتى جلست عليه، فدخل عمر رضي الله عنه، فقال: يا خليفة رسول الله، من هذه؟! فقال أبو بكر: هذه ابنة من هو خير مني ومنك!
فقال عمر: ومن خير مني ومنك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
قال أبو بكر: رجل قُـبِـضَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبوأ مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت(10).
وروى إسماعيل القاضي في «أحكام القرآن» أن عمرة بنت حزم كانت تحت سعد بن الربيع فقُتِل عنها بـ«أُحد»، وكان له منها ابنة فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تطلب ميراث ابنتها، ففيها نزلت: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً) (النساء: 127).
ومن مشهور الأخبار أن سعداً بن الربيع كان له زوجتان، فعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، أنه قال: لمَّا قَدِمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إنِّي أكثر الأنصار مالًا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زَوْجَتيَّ نزلت لك عنها، فإذا حلَّت(11) تزوجتها! فقال له عبدالرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق تجارة(12)؟
وهكذا نستطيع أن نقرر بأن سعد بن الربيع كان له زوجتان، الأول عمرة بن حزم أو حرام(13)، وربما كانت تُكنَّى بأم كُجَّة، ويجوز أن تكون زوجة سعد الثانية هي أم كُجَّة وكان لها اسم آخر، وترى هل كان لسعد بن الربيع ابنتان من أم كُجَّة، وابنة من عمرة، أم أن الخبرين ملتبسان؟ الله أعلم.
ذلك لأنه اخْتُلِف في اسم زوج أم كُجَّة التي نزلت فيها آية المواريث، قال ابن الأثير: أم كُجَّة زوجة أوس بن ثابت، وقال: قال ابن عباس: إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة، يقال لها: أم كُجَّة، فقام رجلان من بني عمه فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئًـا، فجاءت أم كُجَّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فنزلت هذه الآية.
ولا ضير، ولا ضرورة للتوقف عند الأسماء التي لا يقين من صحتها، ونتعداها إلى ما خلفها من أحداث، بل نتعدى الأحداث إلى ما خلفها من دروس مستلهمة.
وما يعنينا هنا، ونَخْلُص إليه مطمئنين أن آية المواريث بما انتظمته من دفع للظلم عن النساء، وحفظ لحقوقهن نزلت في أم سعد ابنة سعد بن الربيع وأختها، وبتحرك مخلص وأمين من الصحابية الجليلة أم كجَّة الأنصارية، وربما نزلت في ابنتي صحابي آخر وحجب عمومتهما عنهما إرث أبيهما.
تلكم المظلمة التي ما زالت قائمة، ومسموعة الأنين حتى أيامنا، ولكن يكفينا أن نكرر ما أسلفناه لكل من حجب ميراثًا أنه أحد اثنين: إمَّا جاهليّ، وإمَّا مسلمٌ فشت المعصية في نفسه، فردَّ على الله عز وجل شرعه، وأرجع على الرسول صلى الله عليه وسلم حكمه، وهو وحده الذي يستطيع أن يقرر أين يقف؟
والآن علينا أن نترضى عنهم جميعًا، فلولا هذا التشريع المهم جدًا لكانت أمور وفتن، نعلم يقينًا أن الله عز وجل لم يكن ليترك خلقه دون هذا التشريع الضروري الذي يُنَظّم لهم مواريثهم، ولكن حسب هؤلاء الأجلاء فخرًا أنهم كانوا أسبابًا في تنزله، وحسبهم خلودًا، وتميزًا، وتفردًا أن يُذْكَروا كلما ذُكِرْ(14).
__________________________
(1) لا تذوق منه ذلًا أو ظلمًا.
(2) قطعه ومحاه.
(3) قال أبو موسى: أي ليس يُعطيان شيئًا من ميراث أبيهما.
(4) ذكرت رواية أخرى أنها امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنه، وقال ابن حجر: هذا خطأ، وإنما هما ابنتا سعد بن الربيع، أمَّا قيس بن ثابت فاستشهد في اليمامة رضي الله عنهم جميعًا.
(5) حديث صحيح: أخرجه الترمذي في صحيحه (2092) واللفظ له، وابن ماجه (2720)، وأحمد (14840)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (2200).
(6) راجع قصته كاملة في «رجال تحت راية النبي» للمؤلف، دار التوفيقية للتراث بالقاهرة.
(7) حديث مرسل: أخرجه ابن سعد (3/ 2/ 78)، والحاكم في المستدرك (2/ 624)، ومالك (996).
(8) سير أعلام النبلاء (1/ 318)، أسد الغابة (1993).
(9) جمال وبهاء.
(10) أخرجه الطبراني في الكبير (5401).
(11) نزلت لك عنها: أي طلقتها، وحلَّت: أي انقضت عدتها.
(12) حديث صحيح، أخرجه البخاري (2048) في كتاب البيوع.
(13) كما ذكرها ابن الأثير في أسد الغابة كزوجة لسعد بن الربيع (7124).
(14) البداية والنهاية (3/ 319)، الثقات (3/ 147)، الطبقات الكبرى (9/ 79)، الاستبصار (56، 114)، صفة الصفوة (1/ 480)، الإصابة (3160)، سير أعلام النبلاء (68)، أسد الغابة (1993) (7576).