قد يظن الإنسان أنه أفضل الكائنات ذكاء وفطنة، ولكنه في مواقف كثيرة قد يقف حائراً أمام واقع تورط فيه فلم يجد من البشر من أن ينقذه ويأخذ بيده فيرسل الله إليه جنداً من جنوده ليعلمه ما لم يعلمه، أو يبلغه أمراً -رغم قدراته وملكاته- لم يستطع أن يحيط به، ومن هذه الجنود «الطير»، فإن بعض الطيور علَّمت الإنسان ما لم يتعلمه، واستطاعت أن تحيط علماً بما لم يَخْبرْه.
وأول معلم للإنسان من هذه الطيور هو الغراب، وقد أرسله الله إلى قابيل ليعلمه كيف يدفن أخاه هابيل، بعدما قتله؛ لأن هابيل تقبل الله منه نذره، ولم يتقبله من قابيل، وقيل: إن قابيل ظل يحمل أخاه ويسير به ولا يعرف كيف يفعل بجثمانه حتى بدأت رائحته تفوح، فإذا بغراب يهبط أمامه ليحفر في الأرض حفرة ليدفن فيها غراباً آخر كان قد مات، فتعلم منه قابيل كيف يواري سوأة أخيه، ومن يومها وصار الدفن في التراب هو مآل كل حي يموت، وعن هذا يقول ربنا: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (المائدة :31).
وكان للغراب حكاية أخرى مع عبدالمطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي دله على مكان زمزم بعد أن دفنت لمئات السنين، فعبدالمطلب كان يتولى أمر سقاية الحجاج، وكان هذا هَماً عظيماً عليه، حيث يظل طوال العام يجمع المياه من آبار عدة في الصحراء ثم يقوم بحفظها في بئر كبيرة، حتى إذا ما جاء حجاج بيت الله وجدوا سقياهم، وظل يقضي ليله ونهاره مفكراً في وسيلة سهلة، ييسر بها للحجاج سبيل الماء بلا عنت ولا مشقة، وكان قد سمع فيما سمع من أقاصيص الرواة عن بئر زمزم، التي بناها جده إسماعيل بن إبراهيم، ثم طمستها قبيلة جرهم وأخفت معالمها حين نزحت من أرض الحرم منذ زمن قريب من عهد إسماعيل، فتمنى عبدالمطلب لو قُدر له العثور على مكانها؛ ليكشف عنها، ويعيدها سقاية للحجاج، كما كانت في عهد جده إسماعيل، وظل مشغولاً بهذا الأمر ليله ونهاره.
وبينما هو ذات ليلة يفكر في أمر السقاية وقد غلبه النوم، رأى كأن هاتفاً في منامه يقول له: احفر طيبة، فسأل عبدالمطلب: وما طيبة؟ فانصرف عنه الهاتف ولم يجبه بشيء، فلما كانت الليلة الثانية، أقبل عليه ذلك الهاتف كما أقبل في الليلة السابقة، وقال له: يا عبدالمطلب، احفر بُرَّة، قال عبدالمطلب: وما بُرَّة؟ فانصرف عنه الهاتف ولم يجبه بشيء.
فلما كانت الليلة الثالثة، عاد إليه الهاتف، وقال له: يا عبدالمطلب، احفر المضنونة، قال عبدالمطلب: وما المضنونة؟ فانصرف عنه كذلك ولم يجبه بشيء.
فشغل عبدالمطلب شغلاً عظيماً بأمر هذا الهاتف، وفي الليلة الرابعة، ما كادت عيناه تستغرق في النوم حتى أقبل عليه الهاتف ليقول له: احفر زمزم، فصاح عبدالمطلب في الهاتف: وما زمزم؟ فلم يغضب الهاتف ولم ينصرف كما كان يفعل كل مرة، بل نظر إليه مبتسماً، وقال في أناة وهدوء: لا تُنْزَح، ولا تُذَم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم الذي يكون في رجليه أو أحدهما بياض، وهذا لا يوجد في الأغربة إلا نادراً.
حينذاك نهض عبدالمطلب من فراشه على عجل، وانطلق نحو الكعبة ينظر ما هنالك، فإذا بالغراب الأعصم ينبش برجليه وينقر بمنقاره حيث تذبح الأنعام التي تهدى للبيت، وكان الناس قد ألفوا هذا الغراب المميز بين كل الأغربة بهذا البياض الذي فيه، وهنا أيقن عبدالمطلب أن هذا الهاتف لم يكن شيطاناً، ولم تكن رؤاه أضغاث أحلام، وفي نفس مكان نقرة الغراب الأعصم بدأ عبدالمطلب ومعه ابنه الوحيد في ذلك الوقت الحارث في الحفر أياماً حتى تفجر ماء زمزم من جديد بعد مئات السنين، وكان المرشد والمعلم لعبدالمطلب هذا الغراب. (انظر: البداية والنهاية لابن كثير، ج1، ص277، ط1، دار الريان للتراث).
أما الطير الثاني الذي علم البشرية أن مهمة الداعية لا تتوقف عند الوطن الذي يعيش فيه، وأنه عليه أن ينطلق بدعوته إلى أماكن أخرى جديدة، فهو هدهد سليمان عليه السلام، فكان هو أول سفير للدعوة خارج الأوطان، وقد كان سبباً في دخول مملكة بكل من فيها، ومعهم ملكتهم إلى الدخول في دين سليمان عليه السلام.
وقد حكى لنا القرآن الكريم قصة هذا الهدهد، فوِفْق ما ورد في القرآن من أن النبي سليمان كان يتفقد الطيور، ووجد أن الهدهد غائباً، فتوعده بالعذاب، أو الذبح إذا لم يأت بسببٍ مقبولٍ لغيابه وقد جاء ذلك في قوله تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ {20} لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) (النمل).
وعندما وصل الهدهد، قام بشرح الأسباب التي جعلته يتخلف عن حضور الاجتماع مع الطيور، وأخبره عن نبأ قوم سبأ، وورد ذلك في قوله تعالى: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (النمل: 22).
وقد أبلغ الهدهدُ سليمان أيضًا أن الملكة وقومها يعبدون الشمس ولا يعبدون الله، واستنكر عبادتهم لغير الله، فقال: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ {23} وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ {24} أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) (النمل).
فكتب سليمان خطابًا وأعطاه للهدهد ليذهب به إلى الملكة للتحقق من صحة ما قاله الهدهد، فقال له سليمان: (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {27} اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) (النمل).
فلما وصلت الرسالة إلى بلقيس تشاورت مع قومها فيما يمكن فِعله، حيث يذكر القرآن قولها: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (النمل: 32).
ثم أرسلت الملكة هدايا لسليمان لكنه رفض قبولها جميعًا، فقامت بزيارته لاحقًا، فرأت مظهرًا من مظاهر عظمة مُلك سليمان، ولما تحققت من أنه نبي أعلنت التحول إلى الإسلام.
ومن الطير الذي علم الإنسان معنى أن يكون مسؤولاً عن حماية جماعته، وتنبيههم إلى أي خطر داهم قد يتعرضون له، النملة التي كانت مهمتها المكلفة بها الاستطلاع والمراقبة للتنبيه على أي خطر قد تتعرض له مملكتها، والنمل يعده كثير من العلماء من الطيور، بالإضافة إلى أنه من الحشرات؛ لأن له جناحين يطير بهما في مرحلة من عمره.
وقصة النملة مع نبي الله سليمان لها أمر عجيب، فقد جمع سيدنا سليمان يومًا جنوده من الإنس والجن والطير والدواب وأمرهم بالسير في صفوف منتظمة، وأثناء سيرهم مروا على وادٍ يسكنه النمل، وكان النمل منهمكاً في مهامه إلا نملة وقفت تراقب مشهد سير نبي الله سليمان عليه السلام وجنوده، وعندما اقتربوا من بيوت النمل صاحت النملة بأخواتها النمل: أن أسرعوا وادخلوا إلى مساكنكم حتى لا يطأكم نبي الله سليمان وجنوده دون أن يشعروا فهم قد اقتربوا منا.
فأسمع الله سيدنا سليمان عليه السلام ما دار من حديث بين النملة وأخواتها، وفهم ما قالت فتبسَّم ضاحكاً متعجباً، لأنها عرفت اسمه، وأنها قالت: «وهم لا يشعرون»، فوسمته وجنده بالصلاح والرأفة وأنهم لا يقتلون ما فيه روح لغير مصلحة، وهذا تنويه برأفته وعدله الشامل بكل مخلوق لا فساد فيه، أجراه الله على نملة لنعلم شرف العدل ولا يُحتَقر مواضعه، وأن ولي الأمر إذا عدل سرى عدله في سائر الأشياء وظهرت آثاره فيها حتى كأنه معلوم عند ما لا إدراك له.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى تلك القصة العجيبة في القرآن الكريم في سورة «النمل» حيث يقول تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ {16} وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ {17} حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ {18} فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل).
ومن بين ما علمته هذه النملة للبشرية الإيجابية والشجاعة، فقد كان من الممكن أن تهرب وحدها وتدخل جحرها، لكن لأنها أول نملة رأت الجيش قبل غيرها من النمل، فخشيت على أمتها، ولم تعش لنفسها، رغم أنه كان من الممكن أن تموت تحت الأقدام وهي تنادي على النمل، لكنها تضحي من أجل الآخرين، ولهذا تبسم سيدنا سليمان.
وهكذا تعلم الإنسان وسيظل يتعلم من خلائق أخرى كثيرة يظنها أضعف منه قوة وعقلاً.
______________________
عميد كلية الإعلام بجامعة الأزهر سابقاً.