إن حب التملك غريزة فطرية، لها وجوه إيجابية عديدة، منها: العمل، والرغبة في الاكتساب، والمحافظة على الثروة من الضياع، إلا أن التوجيه التشريعي في هذا المجال وضع هداية مهمة يهتدي بها الإنسان المالك في حياته الدنيوية حتى لا يعدل في ملكيته عن الحق، هذا التوجيه هو إظهار حقيقة العلاقة بين الإنسان الفرد والمال، وهي أن الإنسان ليس هو المالك الحقيقي؛ بل هو مُستخلَف فيه، وهذا الاستخلاف له شروطه وقواعده التي هي جملة التشريعات التي يلتزم بها الإنسان في خارج سلوكه ونشاطه الاجتماعي، لكنه لا يمكن أن يلتزم بتلك التشريعات السلوكية إلا إذا استقر في وجدانه حقيقة النظرة القرآنية إلى المال وعلاقته به المتمثلة في قوله تعالى: (مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد: 7).
وقد حرم القرآن العظيم اكتناز المال وحرمه لما فيه من أضرار بالجماعة الإنسانية، وفي ذلك حفز إلى تداوله بين أكبر عدد من أفراد المجتمع؛ (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7)؛ وذلك لما في أخطار اكتناز المادي الاقتصادي كله في المجتمع، ولعل ما أشارت إليه نتائج تطبيقات النظام الاقتصادي الرأسمالي، وما تضمنته من أخطار على الإنسان الفرد والمجتمع في ظل تمركز «المال» في يد فئة «الرأسماليين»، يعد أحد المصاديق الواقعية لمقصدية القرآن في الدفع إلى تداول المال بين أكثر فئات المجتمع، كما حرم القرآن الربا لتداعياته على عملية التنمية الإنسانية؛ (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275)، وعلى شبكة علاقاته المادية والاجتماعية والإيمانية كذلك، ويزيد كذلك من تركيز المال في فئة قليلة الرأسماليين؛ وهو ما تعاني منه البشرية اليوم ومن تداعياته وكذلك يعاني منه العالم الإسلامي.
نتناول فيما يلي جانباً من تطبيقات النظر إلى المال في القرآن والاقتصاد الوضعي من خلال أنموذج هو «القروض».
«القروض» أنموذجًا
يفرض النظام الاقتصادي الوضعي الاقتراض بالربا من أجل زيادة رأس المال المرابي، وكأن الاقتراض ليس حلًا لإشكالية اجتماعية يتعرض لها كثير من الناس أصحاب الاحتياج في أوقات الأزمات الخاصة أو العامة، كأن الاقتراض حل لإشكالية المرابي الذي يريد نماء رأسماله بكل الطرق حتى استغلال الحاجة البشرية والضعف الإنساني الاجتماعي، ومن ثم فتغيب عن المقرض في النظام الاقتصادي الوضعي العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي تربط بين أفراد المجتمع، فيستغل الحاجة الشديدة للمال ويفرض شروطه برد قيمة القرض بزيادة، ولا يعنيه فكرة عضوية المجتمع الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، أو مبدأ القرآن للمجتمع المسلم «البنيان المرصوص» يشد بعضه بعضًا ويفرج بعضه عن بعض أزماته.
يقول الاقتصاديون في تأثير الربا على الأمن المجتمعي: إن المرابي -في قروض ذوي الحاجات- يستولي على الشطر الأكبر من كسب ذوي الحاجة منخفض الدخل، وهم غالبًا من العمال، حتى إنهم بعد ذلك لا يجدون من النفوذ ما يقيمون به أودهم هم وذووهم، بعد أن يكونوا قد أنفقوا بياض نهارهم ووصلوه بسواد الليل في البذل من أجل تحصيل الرزق الذي ينهبه المرابي بواسطة كسله وقعوده عن العمل، وترتب على ذلك أن تصر أخلاق هؤلاء المساكين إلى الفساد، ويتحرفون إلى ارتكاب الجرائم واقتراف الآثام، كما ينحط مستوى معيشتهم ومستوى تعليم وتربية أبنائهم إلى غير ذلك من الآثار الذاتية والاجتماعية والقومية(1).
أما في مجال القروض الإنتاجية -وهي القروض التي يعقدها الصناع والزراع والتجار لاستخدامها في تمويل نشاطهم الاقتصادي، بسبب قصور مواردهم الذاتية عن توفير المبالغ الكافية للاستثمار المرغوب فيه- نلاحظ من مظاهر المضار التي تلحق بهذا النوع من القروض، أن مقدم القرض لا يهمه مسألة الربح والخسارة للمقترض، حيث ينظر إليه كمدين، ومن ثم فإن مقدم القرض لا يسعى إلى ترقية مستوى الإنتاجية للمشروع أو تحسين أدائه وحتى في حالة انهار المشروع أو خسارته، نجد مقدم القرض يسعى لاسترداد أمواله من الفتات الباقي لصاحب المشروع المنكوب، وهذا الأسلوب الخاطئ لتثمير الأموال بواسطة الإقراض الربوي قد أقام العلاقة بين رأس المال والأنشطة الاقتصادية الحقيقية المنتجة للثروة على أساس العداوة والبغضاء والتناحر بما يلحق الضرر بالرقي الاقتصادي للجماعة ويؤدي إلى تخلف الأنشطة الاقتصادية بها(2).
«القرض الحسن» في القرآن
اهتم القرآن بالقرض الحسن نظرًا لأهميته البالغة في تحقيق أمن واستقرار المجتمع المسلم، وتحقيق سلامة شبكة العلاقات الاجتماعية فيه، ومما جاء في ذلك قوله تعالى: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد: 11)، واقرأ: (البقرة: 245)، و(المزمل: 20)، و(الحديد: 18)، و(التغابن: 18)، و(المائدة: 12).
ذكر الرازي أن القرض لا يكون حسنًا حتى يجمع أوصافًا عشرة، هي كما يلي(3):
الأول: أن يكون من الحلال؛ «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا».
الثاني: أن يكون من أكرم ما يملكه الإنسان (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ) (البقرة: 267).
الثالث: أن تتصدق به وأنت تحبه وتحتاج إليه بأن ترجو الحياة؛ (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) (البقرة: 177).
الرابع: أن تصرف صدقتك إلى الأحوج الأولى بأخذها.
الخامس: أن تكتم الصدقة ما أمكنك: (وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (البقرة: 271).
السادس: ألا تتبعها منًا ولا أذى (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ) (البقرة: 264).
السابع: أن تقصد بها وجه الله تعالى ولا ترائي (لَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ) (الليل: 20).
الثامن: أن تستحقر ما تعطي وإن كان كثيراً؛ (وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) (المدثر: 6).
التاسع: أن يكون من أحب أموالك إليك (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92).
العاشر: ألا ترى عز نفسك وذل الفقير، بل يكون الأمر بالعكس في نظرك.
الفوائد الاجتماعية للقرض الحسن
في ضوء هذه المنظومة الأخلاقية والتشريعية التي تحيط بمفهوم «القرض الحَسَن»، يمكن أن نقف على مجموعة من الفوائد الاجتماعية والتربوية وتطبيقاتها في واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وذلك كما يلي:
1- إعادة بناء مفهوم المال وملكيته لدى الفرد المسلم: إن فكرة القرض الحسن كما قدمها القرآن الكريم تقوم على تصور اعتقادي في المال، هذا التصور الذي يقدمه الإسلام يختلف عن التصور الذي تقدمه النظم الوضعية، حيث إن الإقراض بالخصائص المذكورة –سابقًا- لا يستطيع القيام بها أو أداءها إلا من يمتلك التصور الإسلامي للمال والملكية، ويتضمن هذا التصور الجوانب التالية: الملك لله وحده، وأن المال مال الله، وأن ملكية الإنسان للمال على سبيل المجاز، استعمال المال في مرضاة الله أي في وجوه النفع والخير للناس، الاعتقاد بأن المال وسيلة لا غاية.
2- إنقاذ المجتمع من آثار التعامل الربوي: إن القرض الحسن في ضوء أهم شروطه وهو ألا يكون وراءه نفع؛ أي زيادة في رده (الربا)، هو تحقيق لتضامن المجتمع والمحافظة عليه في وقوع المقترض في يد المرابين –الذين يقدمون القرض بالزيادة عليه أي الربا- وهو ما يفتح -فضلًا على حرمته الواقعة- أبواب هلاك للفرد والمجتمع بتضخيم الدَّيْن وزيادة عبئه على الفرد؛ مما يوقعه في تبعات جديدة ومضاعفة بسبب تضاعف الدَّيْن، الذي حاول به أن يحل أزمته المادية ففتحت له أبواب أزمات أخرى.
3- إعادة التواصل بالإحسان بين أعضاء شبكة العلاقات الاجتماعية: كذلك فإن القرض الحسن يشيع بين أفراد المجتمع فضيلة التواصل بالإحسان، فيحرص أصحاب الأموال على الإحسان إلى أصحاب الحاجات والعوز، ندبًا إلى ثواب ذلك الإحسان المتمثل في إعطائهم ما يسد حاجاتهم بناء على طلبهم (الاستقراض)، وهذا عكس التعامل بالربا الذي يختفي فيه التواصل بالإحسان بين الناس، ويؤدي إلى القطيعة والضغينة بين أصحاب الأموال وأصحاب الاحتياج.
4- ثقافة الإعانات المتبادلة: من أبعاد مفهوم القرض الحَسَنُ وظلاله الاجتماعية ما يطرحه من التمكين لثقافة المساعدة والإعانة المتبادلة بين الناس، ومن ذلك ما عرف بالسلف –بلغة أهل العراق- أو السَّلم بلغة أهل الحجاز وهو تبادل الأفراد لما يحتاجون إليه بهدف استغلاله ورده عند نهاية الحاجة إليه.
ونزلت في ذلك سورة سميت بـ«الماعون» تذم المانعون لتبادل الحاجات التي يسألها أصحابها، وأصل الماعون: من كل شيء منفعته، والماعون اسم لما يمنع في العادة وسأله الفقير والغني ينسب مانعه إلى سوء الخلق ولؤم الطبيعة، كالفأس والقِدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم، ويدخل الملح والماء والنار فيها، ومن ذلك أن يلتمس جارك أن يخبز في تنورك، أو يضع متاعه عندك يومًا أو بعض يوم(4)، وقيل في الماعون: الزكاة المفروضة، وصدقات الأموال، والحقوق جملة، والمنافع، والذي يُسأل مال الله فيمنعه (كالقدر والدلو ونحو ذلك).
لقد خسرت أمتنا كثيرًا باستبدال القروض الربوية بالقرض الحسن، ووقعت في براثن الفقر والحاجة والعوز والجريمة التي ترتبت على هذا التعامل بالقروض الربوية فضلًا عن مخاصمة الله تعالى لها وتنفيذ سُنته ووعده فيها (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة:275)، (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276).
__________________________
(1) محمود عارف وهبة: تقويم الربا، مجلة المسلم المعاصر، عدد (25)، يناير 1981، ص78.
(2) المرجع السابق، ص80.
(3) الرازي: مفاتيح الغيب، ج29، ص222.
(4) رفعت السيد العوضي (تحرير): موسوعة الاقتصاد الإسلامي، ج1، ص361.