فرضت معركة طوفان الأقصى العديد من المراجعات على رواد المشروع الإسلامي في الواقع المعاصر، وكلما ازداد أمد المعركة مست الحاجة إلى هذه المراجعة أكثر، خاصة مع ولادة أنماط جديدة من الحيوية الثقافية والفاعلية السياسية في السياقات العالمية والدولية افتقدتها المنطقة العربية والإسلامية، أكدت جميعها ضعف حضور المشروع الإسلامي وحتمية تجديده.
تناقش هذه المقالة مطلب التجديد السياسي في بعده الثقافي باعتبار الثقافة أحد المداخل المنهجية المهمة لمعالجة أزمة المشروع الإسلامي في اللحظة الراهنة، كما تسعى المقالة لربط الثقافة العربية والإسلامية بطوفان الأقصى باعتباره أفقا للتجديد السياسي والإحياء الفكري.
أزمة تكديس الثقافة السياسية
نستعير في هذا المقال مفهوم التكديس الذي اختاره مالك بن نبي لا للتعبير به عن تكديس الأشياء والأفكار كمظهر يعزز الاستلاب بدلًا من البناء الحضاري، بل للتعبير به عن تكديس المعارف الجزئية المتناثرة والمبعثرة التي يجمعها كثير من رواد وكوادر المشروع الإسلامي أثناء بناء ثقافتهم السياسية من خلال مصادر مختلفة، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، ثم يتوجهون بها دون سبر أو تمحيص إلى المجتمعات الإسلامية وفي القلب منهم أنصار هذا المشروع، ثم يؤسسون على هذه الثقافة المكدسة علاقاتهم وتحالفاتهم وإستراتيجياتهم.
على مستوى الذات تعكس هذه الثقافة تبدل مصادر المعرفة التقليدية وآليات التلقي المباشر لأولئك الرواد من خلال المحاضن الثقافية المعهودة، وعلى مستوى الآخر يعكس هذا التثقيف عقم الإنتاج ومشكل الأصالة، حيث تغدو أفكار هؤلاء الرواد اجترارًا لأفكار مبعثرة يرددها شتات من المفكرين والمثقفين والنشطاء لا تنتظمها منهجية فضلًا عن منهجية مفترضة وخطة مفصلة يقتضيها التعبير بمفردة “المشروع”.
وتمنح هذه المعارف الجزئية المكدسة وهمًا كاذبًا بالمعرفة الموسوعية والتكوين السياسي المطلوب لإعداد أولئك الرواد والقيادات لأجل تحمل المسؤوليات السياسية المعقدة والمركبة في الفضاء العربي والإسلامي، ويتزايد هذا الوهم مع ملكات الخطابة والقيادة التي يحظى بها كثير من هؤلاء الرواد، تمنحهم القدرة على المراوغة الخطابية التي توهم الذات، والجماهير على حد سواء.
وهكذا وبدلًا من تجديد محاضن التأهيل والتثقيف السياسي داخل المشروع الإسلامي إذ به يرتد إلى الوراء بترك الأجيال الجديدة والكوادر الشابة والجماهير الواعدة للتنشئة الذاتية من خلال وسائل الإعلام ومراكز البحوث التي يعمل أكثرها في سياق أجندات لدول وحكومات ومنظمات، أو وسائل الإعلام الاجتماعي وهي إما موجهة مثل الأولى، أو ذاتية لكنها لا تبني منهجية للنظر السياسي فضلًا عن ثقافة راسخة أو معرفة عميقة تتأسس على تلك المنهجية.
وتأتي أزمة تكديس الثقافة السياسية في لحظة خطيرة يكاد لا يكفي فيها الذكاء السياسي، بل تمس الحاجة فيها إلى الدهاء الذي يمكن معه بعد توفيق الله تعالى تجاوز التحديات الجسام. وتتمثل خطورة اللحظة الراهنة بحسب اجتهادنا في مشكلين عويصين: سياسي، وفكري.
يتمثل المشكل السياسي بأزمة ما بعد الربيع العربي، التي فاقمت مشكل الاستبداد والتخلف بمشروع صفقة القرن القاصدة إلى تسييد دولة الاحتلال الصهيوني في الشرق الأوسط عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا.
ويتمثل المشكل الفكري بمحاولات استهداف الهوية الدينية والثقافية للمنطقة من خلال جهود متنوعة ومتكاملة تعادي المشروع الإسلامي مثل الديانة الإبراهيمية، والتطبيع الديني، كما تعمل على توظيف أدوات المشروع الإسلامي وخطابه ضده وفي عكس مقصوده، ويمكن هنا استحضار جهود تأسيس بديل كامل عن المشروع الإسلامي يلبي الحاجات الدينية للمجتمعات العربية والإسلامية في البلاد الإسلامية أو حيث تقيم الجاليات الإسلامية، وتعمل هذه المؤسسات البديلة بشكل حثيث على احتلال خارطة الشأن الديني بشكل كامل.
هذا، وإذا كانت الثقافة في المنظور الإسلامي هي تلك المعرفة الحية التي تتأسس على منهجية علمية، وتثمر سلوكًا حضاريًا، وتنضبط بقوانين اجتماعية وضوابط شرعية، فإن نموذج تكديس الثقافة هو الضد من تلكم المضامين والغايات، إذ إن ثمرته معرفة ميتة ينظر بها مجتمع ما إلى المجال والنظام السياسي من خلال منهجيات متباينة لذا تتناقض عليه الأمور، ويتصرف بلا رشد فيما يقع بين يديه من فرص للنهوض، ومقومات للإحياء، ولذا يتأخر بعثه وشهوده الحضاري.
ونحسب أن طوفان الأقصى قد أبان لا عن فشل انتصار المشروع الإسلامي للقضية الفلسطينية في مواجهة حرب الإبادة الشاملة، بل عن أزمة ثقافية خطيرة تفسر الاستسلام لنموذج التكديس.
مطلب التجديد السياسي
ندعو في هذه المقالة إلى التجديد السياسي كبديل واجب عن التكديس لا مهرب منه من جهة، ومخرج من الأزمة لا مناص منه من جهة أخرى.
والتجديد السياسي الذي ندعو له يتأسس على أنظار منهجية متعددة: واقعية وعمرانية، أصولية ومقاصدية، نصية واجتهادية، وهو يجد أصالته في النصوص الدينية، والتراث الإسلامي، والخبرة الحضارية، والتجربة التاريخية، ويلفى سعته في الاعتبار من الماضي وتدبر الواقع واستشراف المستقبل، ويصادف مرونته في قدرته على تعيين المشتركات مع الآخر الديني والفكري والسياسي، ويستوعب هذا التجديد التأصيل والتنزيل، والنظر والسعي، والعلم والعمل.
والتجديد بهذا المعنى فريضة كفائية ينبغي أن يتصدى لها أهل العلم، وقادة الرأي، وخبراء السياسة، تنتقل بهم للإصلاح في مضمار المجتمع والدولة كليهما، بحسب فقه الأولويات.
ويترجح لدينا أن الحركة الإسلامية في واقعها الحالي لا تقوى وحدها للتعامل مع الأزمة الثقافية التي أشرنا إليها أو مطلب التجديد الذي ندعو إليه، وهو الأمر الذي ننطلق منه للقطع بحتمية التحالف الثقافي بين الحركة الإسلامية المعاصرة مع مكونات عديدة داخل الأمة: جماعات علمية ومشاريع حضارية واتجاهات فكرية وتيارات ثقافية، من خلال بحث المشتركات وتعيين التحديات.
مقومات التجديد السياسي
يشتمل الواقع المعاصر على العديد من الرؤى والبرامج والمشاريع التي تحتم على رواد المشروع الإسلامي أن يتركوا التنائي إلى التلاقي من أجل هدف وغاية كبرى هي الإصلاح السياسي للواقع العربي والإسلامي بطريق التفاكر الجمعي، والشورى الجماعية، وهذا التلاقي المنشود لا يلغي الاختلافات والفروق لكنه يهذبها ويثريها ويجعلها في سياق التعدد المفيد، والأهم من كل ذلك أنه يحافظ على بوصلتها وهي جلب المصالح العامة ودرء المفاسد العامة، كما يبعدها عن التيه وفقدان البوصلة بالتراشق والاتهام ونحو ذلك من آفات الخلاف الفكري والسياسي.
وهكذا يترقى اجتماع المشروع السياسي الإسلامي في هذه العقدة التاريخية والمحطة المفصلية (طوفان الأقصى) من خصوص الحركات إلى عموم المشروع، ومن ضيق التنظيم إلى سعة التيار، ومن عقم الانغلاق إلى إبداعية الانفتاح، ومن أزمة المركزية إلى طلاقة اللامركزية، ومن خلال هذه الثمرات يمكن تجديد حضور المشروع الإسلامي وتعضيده كما قال تعالى في وزارة هارون لموسى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)} [طه: 31، 32]، وهذا التعضيد لا تقف جدواه ومآلاته عند حدود أرباب هذه المشاريع، إذ يؤمل أن يمنح الحياة السياسية بمجملها فرصة الانعتاق من الزجاج الموصد، وأن يهب رواد المشروع القدرة على حشد جديد للأنصار والأتباع يجمعهم محشر جديد ذو أرضية صلبة: فكرية وسياسية.
ويمكن هنا ذكر جملة من الاتجاهات التي ندعو للتحالف الثقافي السياسي معها، تعي العناصر الذاتية للشهود المنشود وتتوق فيما نحسب للتجديد الحقيقي لا الزائف.
جماعات علمية: وهنا يمكن استدعاء جهود وإسهامات مدرسة المفكر الكبير الأستاذ الدكتور حامد عبد الله ربيع التي تتمحور حول تأسيس علم سياسي إسلامي من منظور حضاري إسلامي، وهي مدرسة وارفة الظلال ينتسب لها عشرات من الرواد في الفكر السياسي الإسلامي من أبرزهم أستاذنا سيف الدين عبد الفتاح، والدكتورة نادية مصطفى، والدكتورة منى أبو الفضل، والدكتورة هبة رؤوف عزت ومئات من الباحثين.
مشاريع فقهية: ويمكن هنا استحضار الجهد التجديدي في الفقه السياسي لكل من العالمين الجليلين: يوسف القرضاوي وأحمد الريسوني الذين انطلقا في ممارسة التجديد من منظور مقاصدي.
مشاريع فكرية: ويمكن هنا الاستنجاد بإسهامات مالك بن نبي، والحكيم البشري، ومحمد عمارة، وطه عبد الرحمن ومحمد سليم العوا.
مشاريع مؤسسية: ويمكن هنا الإفادة من جهود مدرسة إسلامية المعرفة، وإبداعات مركز مقاصد الشريعة التابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي.
مشاريع موسوعية: ويمكن هنا الاستعانة بجهود أساذتنا عبد المجيد النجار، وسيف الدين عبد الفتاح، وعصام البشير في موسوعات الفقه السياسي وبناء المفاهيم وضبط المصطلحات من منظور حضاري يمزح بين التراث والمعاصرة في وعاء واحد، ويصحح الاختلالات التي أصابت المفاهيم.
مشاريع نقد الحداثة الغربية: ويمكن هنا الرجوع إلى جهود الدكتور عبد الوهاب المسيري، والدكتور جمال حمدان.
ويضاف لهذه المشاريع التيارات التي حولت المشاريع الفكرية إلى تيارات نهضوية مثل مشروع مالك بن نبي على سبيل المثال، ودعت هذه التيارات للخروج من حالة التخلف إلى اليقظة العامة.
كما يضاف لها كذلك جميع الخبرات السياسية التي راكمتها الحركات والجماعات الإسلامية على مدار عقود في بلاد مختلفة وفي سياقات عديدة.
من خلال هذه المشاريع وتلاقحها وتقويمها يمكن تجديد الإنتاج الفكري والإسهام الثقافي والخطاب السياسي، وإعداد خطط تعالج الواقع المختل بعيدًا عن فخي الانحباس والانفلات ويؤذن هذا التجديد بإحياء الحياة السياسية، وإثراء الثقافة السياسية وتطوير مناهج التثقيف في قضايا الشأن العام.
وإذا كان “المشروع الفكري يطيل أمد الفعل الاستعماري وإن كان باطلًا” على ما يقول أستاذنا سيف عبد الفتاح، فإن المشروع الفكري الذي ندعو له هنا يطيل عمر المقاومة ويمدها بأسباب الحياة والبقاء حتى يتعذر اجتثاثها من وعي الأمة، ويمتنع تعويق البناء على مخرجاتها في إيقاظ الإنسان العربي والمسلم في سياق النهوض الحضاري.
طوفان الأقصى وفرص التجديد
يقدم طوفان الأقصى فرصة التجديد السياسي للمشروع الإسلامي من خلال نوافذ عديدة أهمها ثلاثة:
أولها: بناء وعي سياسي ذاتي يتجاوز إسار التقليدية السياسية للحركة الإسلامية التي باتت حبيسة فعل سياسي سلبي تارة، ومعروف المسار والمآل تارة أخرى، حيث قدمت المقاومة الفلسطينية نموذج للدهاء السياسي على مستوى القيادة، والخبرة المهنية على مستوى تأسيس بيوت خبرة وأجهزة تخصصية، والانفتاح الفكري على مستوى اتجاهات التحالفات، والريادة القيادية على مستوى العمل المشترك، والتصميم والعزم على مستوى تحقيق الأهداف وتحمل الخسائر. الأمر الذي يسائل مناهج تكوين قادة وكوادر المشتغلين بالعمل السياسي في المنطقة، واستجواب الثقافة السياسية التي يتوجهون بها إلى الذات ويتفاعلون بها مع الآخر، واستنطاق لمدى الفعالية السياسي والقدرة على الإبداع العملي واجتراح البدائل وفرض الأجندة.
وطوفان الأقصى يفرض على المشروع الإسلامي القصد نحو تجديد مناهج الإعداد والثقافة والتثقيف السياسي، وإعداد خبراء وبيوت خبرة في كل قضايا المنطقة، واهتماماتها، وأولوياتها، وخرائطها، ومساراتها، وبرامجها، وخططها، ومشاريعها، وإدارة الإستراتيجيات والسياسات المرتبطة والمتعلقة بالأمة، بما يثمر أفكارًا سياسية تفضي إلى مشهدية سياسية جديدة.
والثاني: تجديد وعي الأمة بمشكلها الأساسي وهو الاستقلال، وقضيتها المركزية وهي القضية الفلسطينية، وعدوها الحقيقي وهو المشروع الصهيوني وامتداداته الاستعمارية في الغرب، الذين يريدان رعاية المصالح الغربية، وتأبيد تخلف المنطقة وغثائيتها لصالح الهيمنة الصهيونية عليها.
وتأتي هذه الفرصة في وقت أبان عن الوجه الحقيقي للوحشية الصهيوني، والتحيز الغربي، وفشل التطبيع الإبراهيمي، ومأزق التطبيع السياسي، وجميع ذلك يمنح فرصة قد لا يجود بها الزمان لإحياء المشروع السياسي الإسلامي في المنطقة العربية تحديدًا.
وتفرض هذه الفرصة على قادة المشروع السياسي الإسلامي حضورًا فاعلًا في المشهد السياسي العربي والإسلامي بتعقيداته المختلفة، وعدم الخضوع للضغوط الخارجية أو الداخلية أو الذاتية، حيث لعبت الأخيرة دورًا كبيرًا في العقد الأخير في التدمير الذاتي للفعل السياسي الإسلامي، من خلال أمرين: أحدهما: الخضوع غير المفهوم لمنطق المزايدات، وهي -فضلًا عن كونها تعكس فقدان الرؤية والبوصلة- وصفة جاهزة للغياب والفناء، والتكلس والجمود، والعقم والمراوحة.
والثاني: السقوط في فخ الأسئلة المفروضة من خارج أولويات العلم والعمل في المنطقة، الأمر الذي أشغل الحركة الإسلامية في سجالات فكرية سياسية تبحث في الدولة المستلبة بعيدًا عن الوقوف على مشكل الاحتلال ومطلب الاستقلال، وهو ما عمق الهوة بين التيارات المختلفة داخل الأمة وزاد فرقتها، وأهدر طاقتها.
كما تفرض عليهم تأسيس تيار أساسي للمشروع الإسلامي في الأمة من المهمومين بالعمل السياسي باختلاف اتجاهاتهم وتياراتهم على شاكلة ما دعا له المستشار طارق البشري في السياق الوطني، بحيث ينفتح هذا المشروع على التيارات الفكرية والسياسية والطائفية، ويبحث عن المشتركات معها بغرض الخروج من حالة الاحتقان والصراع الداخلي في المنطقة من جهة، والتضييق على التيارات المتطرفة والتكفيرية التي تفضي إلى إهدار طاقات الأجيال الجديدة.
والثالث: إعادة الاعتبار لشعيرة الجهاد، باعتبارها واحدة من أهم الوظائف الحضارية للأمة، وذلك بعد عقود من الزمان شغلت فيها الحركة الإسلامية بتبيان الفروق بين الجهاد والإرهاب بدلًا من الانشغال بتأسيس مشروع جهادي وسطي يعبر عن النموذج الحضاري الإسلامي في إيقاع هذا الواجب، وتشخيص هاتيك الفريضة، خصوصاً في دول الطوق التي ينبغي أن تتحمل الحركات الإسلامية فيها واجبات دينية ومسؤوليات تاريخية مضاعفة بحكم ملاصقة حدود الأرض المقدسة، وانفساح حدود دولة الاحتلال.
وإن الفرصة اليوم -حيث يختل النظام الدولي لصالح القطبية المتعددة، ويعتل النظام الإقليمي الهش باعتلال صفقة القرن- مواتية لإرباك الاحتلال عبر تلك الحدود، من خلال جهود ومساع حثيثة لا تستسلم للواقع، وتحث الخطى نحو الانتقال من الهامش إلى المتن، ومن الأطراف إلى المركز.