يعتقد البعض أن الهجرة لا تعني إلا ترك الأوطان والانتقال من مكان إلى مكان، وأن الهجرة التي تعني ترك الأوطان من أجل تحقيق العبادة قد انتهت بعد فتح مكة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»(1)؛ ومن هنا فإن هؤلاء يستشكلون أن تكون الهجرة باقية، فضلاً عن كونها عبادة يمكن أن يكتسب منها المسلم الثواب الجزيل والأجر العظيم؛ لذا أردنا أن نبين المعنى الشامل للهجرة، ومظاهرها التي لا تنقطع، وثوابها الذي ينبغي أن نسعى في تحصيله والفوز به، ويتبين ذلك فيما يأتي:
معنى الهجرة
الهجرة في اللغة: من الهجر، بمعنى الترك للشيء والإعراض عنه ومقاطعته(2)، فالهجرة تعني: الترك والقطيعة(3)، هذه الهجرة قد تكون متصلة بالهجرة القلبية أو الجسدية والمكانية، فإذا كانت متصلة بالقلب؛ فإنها تعني: أن يترك القلب الشيء ويعرض عنه، وإذا كانت متصلة بالجسد والمكان؛ فإنها تعني مفارقة المكان واستبداله بمكان آخر، وفي هذا المعنى جاء تعريف الإمام الجرجاني للهجرة، حيث عرفها بقوله: الهجرة هي ترك الوطن الذي بين الكفار والانتقال إلى دار الإسلام(4).
من خلال هذه التعريفات يتبين أن كلمة الهجرة تتنوع دلالاتها على حسب الحالة التي تكون فيها؛ مما يؤكد أنها تتسع لتشمل العديد من المعاني، وفي هذا ما يمنع من حملها على معنى واحد وإصدار الأحكام القاطعة بشأنها، إلا ما ورد فيه النص بخصوصها، ويتبين ذلك في الجواب عن السؤال التالي: هل انقطعت الهجرة بعد فتح مكة؟
استدل القائلون بانقطاع الهجرة بعد فتح مكة بحديث سيدنا عبدالله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الهجرة فقال: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»(5).
والحقيقة أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت بسبب تطاول الكفار على المسلمين وأذيتهم في دينهم ودنياهم، وعندما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة صار المؤمنون في أمن وأمان على دينهم ودنياهم، فلم يعد هناك سبب للهجرة، ومن هنا أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الهجرة من مكة إلى المدينة قد انتهت؛ لزوال سببها.
لكن هذا لا يعني أن الهجرة قد انتهت عموماً من الدنيا، ولهذا قال الإمام الخطابي: كانت الهجرة فرضاً في أول الإسلام على من أسلم، لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو.
وقال ابن حجر العسقلاني: كانت الحكمة في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه وفيهم نزلت: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) (النساء: 97)، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها.
وقال الطيبي: قوله: «ولكن جهاد ونية» هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله؛ والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن(6).
من خلال هذه الأقوال يتبين أن الهجرة من مكة إلى المدينة قد انتهت لزوال سببها، وهو أذى المشركين للمؤمنين، لكن الهجرة باقية إذا توفر سببها، سواء كان هذا السبب هو الأذى أو غيره، كأن يهاجر المسلم من بلد ضاق فيه عيشه إلى بلد آخر يطلب فيه رغد العيش وسعته من الحلال الطيب، أو كانت الهجرة في طلب العلم، أو غيره من الأسباب المشروعة.
هل الهجرة عبادة؟
لقد أمر الله تعالى بالهجرة في القرآن الكريم، وعاب على من ضاق عيشه أو فُتِن في دينه أن يبقى ظالماً لنفسه في مكانه، فقال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً {97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {98} فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء)، هذا أمر بالهجرة من مكان إلى مكان.
أما الهجرة القلبية، فقد أمر الله تعالى بها أيضاً وحدد معالمها، فقال عز وجل: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (المزمل: 10)، والهجر الجميل هو الهجر الذي ليس فيه عتاب ولا سب ولا أذى.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة من المعاصي إلى الطاعات، ومن السيئات إلى الحسنات، ففي صحيح البخاري، ومسلم عن عبدالله عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ ويَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه».
كما صرّح الرسول صلى الله عليه وسلم أن المسلم حين يهجر مواطن اللغو التي يقع فيها الناس، ويذهب إلى عبادة الله تعالى فهو مهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن مَعْقِل بن يَسَار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العِبَادة في الهَرْج كهجرة إليَّ».
ثواب الهجرة
لقد رتّب الله تعالى على الهجرة ثواباً عظيماً في القرآن الكريم، فقد بيّن أنها سبيل إلى رحمة الله، حيث قال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 218)، كما أكد تعالى أن الهجرة صفة المؤمنين، وأنها سبيل إلى سعة الأرزاق ومغفرة الذنوب ودخول الجنة، فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 74)، وقال أيضاً: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران: 195)، وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: 20)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (النحل: 41)، وقال عز وجل: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {58} لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) (الحج)، وقال عز وجل: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء: 100).
_________________________
(1) رواه مسلم (1864).
(2) لسان العرب، ابن منظور (5/ 250).
(3) الكليات، الكفوي، ص 961.
(4) التعريفات، الجرجاني، ص 256.
(5) رواه مسلم (1864).
(6) فتح الباري، ابن حجر (6/ 39).