في الذكري الـ571 لفتح القسطنطينية الذي غيَّر العالم؛ حيث شكَّل نهاية لأكثر إمبراطوريات العالم ظلماً وقسوة وغروراً بالقوة، يجب أن نعيد دراسة سيرة محمد الفاتح، القائد الفارس الذي شكَّل حديث رسول الله هدف حيته، فتطلع إلى أن يفتح القسطنطينية، وأن يكون «نِعْمَ الأمير»، وألهم جيشه أن يتطلع لأن يكون « نِعْمَ الجيش».
عرف العالم كله محمد الفاتح المخطط الإستراتيجي، والقائد الذي ظل يقاتل طوال 30 عاماً قاد خلالها 25 حرباً، وأطلق عليه ملوك أوروبا لقب «السيد العظيم»، وكان اسمه يثير الرعب في قلوب أعدائه، وأصبح محور السياسة العالمية، وصاحب الكلمة الأولى في الشؤون الدولية.
محمد الفاتح شاعراً
هناك الكثير من جوانب شخصية محمد الفاتح التي تحتاج الأمة لدراستها في هذه الفترة، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخها تكافح فيها لاستعادة مكانتها الحضارية ودورها التاريخي.. لكنني سأتحدث عن جانب جديد من سيرة محمد الفاتح، هو أنه شاعر تدور معظم قصائده، وعددها 41 قصيدة، حول الغزل ويعبر فيها عن مشاعر إنسان يحب ويتألم لفراق المحبوب، ويصف الجمال بما يؤكد تميزه الشعري.
الفروسية والغزل
وهناك علاقة قوية بين الفروسية وشعر الغزل، فالفرسان يجيدون البوح بما يكنه الوجدان من أشواق للمحبوب حتى في ميادين القتال، فالقصيدة سلاح لا تقل تأثيراً عن السيف، وذلك يوضح أن الحروب الكبرى في حياة البشرية نتيجة صراع حضارات، وأن القادة العظماء هم بشر يكتبون أعذب الشعر، ويتغنون بجمال العيون.
تحليل شعر محمد الفاتح يوضح أنه يصدر عن قلب إنسان يعشق الجمال، الذي يتجلى في الشوق للمحبوب، وفي المعارك تحتاج النفس للشعر، وربما أسهمت تلك المعارك في ابتكار كلمات جديدة.
لكن المعارك جعلت شعر الكثير من فرسان الإسلام يضيع؛ حيث انشغل المؤرخون بالحديث عن انتصاراتهم وبطولاتهم، وتجاهلوا إبداعهم وتعبيرهم عن الأشواق والحب والجمال.
الشعر بين عوني والفاتح
أما محمد الفاتح فقد اختار أن يكتب شعره باسم مستعار هو «عوني»، وليس هناك تفسير لذلك سوى أنه أراد أن يميز بين محمد الفاتح البطل المنتصر، وعوني الإنسان المحب العاشق الشاعر الذي يعبر عن أشواقه وحبه، لكن يمكن أن يكون ذلك تقليداً أرساه السلاطين العثمانيون، حيث كتبوا الشعر بأسماء مستعارة.
فهل كان محمد الفاتح يفعل ذلك حتى لا يعرف الناس أنه يكتب شعر الغزل؟ هناك قصيدة في الديوان تنفي ذلك الاحتمال؛ حيث يقول فيها:
ألا إن انفرادي في غرامي أيا ذا الزهد ليس بذي آثام
وإذا نظم القصائد في جمال بحمد الله «عوني» ذو التزام
وما اقترف القبائح في سلوك ولم يأت بعيب أو حرام
فعوني (محمد الفاتح) المتفرد في غرامه الذي يكتب شعر الغزل، ويعبر عن معاني جديدة هو إنسان ملتزم ليس بذي آثام، ولم يرتكب قبائح في سلوكه، وهذا ما يجمع عليه المؤرخون، فهو الزاهد العابد المؤمن الورع العادل الصالح.
ولقد تمكن الشاعر المبدع علي محمد زينو من نقل شعر محمد الفاتح من اللغة العثمانية إلى اللغة العربية، وإعادة صياغتها لتصبح شعراً عربياً يتضمن الكثير من المعاني الجديدة.
من داخل الثقافة الإسلامية
كان تأثير ثقافته الإسلامية واضحاً في شعره، حتى وهو يصف جمال محبوبته، لكنه يوظف اللغة لابتكار المعاني الجديدة؛ حيث يقول:
جمالك هذا من يد الله منحة جمال إلهي عطية منان
تغزل عوني في المحيا وكم له قصائد عنه في الهوى تتكلم
وكم قال: إن الوجه شمس وقد إذا أشرقت معني به ليس يفهم
فعوني يتغزل في المحيا بمعانٍ جديدة، ويرى أن هذا الجمال هو منحة من الله.
هناك الكثير من المعاني الجديدة والغريبة في شعر محمد الفاتح؛ وهو يوجه الشعراء إلى مواصفات الشعر الجيد، فيقول:
خير الكلام أقله وأدله يأتي به المرء اللبيب العاقل
وطويل شعرك فيه ألف دلالة أوحى بها الحسن البديع الكامل
فكأنه مثل رصين قاله ذو حكمة وبه تمثل قائل
الفاتح شاعر الحكمة والزهد
القصائد التي تتناول الزهد والحكمة تكشف جانباً مهماً من شخصية محمد الفاتح صاحب الإنجاز الحضاري الإسلامي، والبطل المنتصر، فهو يذكر نفسه بالموت الذي لا يمكن أن يفر منه إنسان، فيقول:
إذا ما انتهي العمر فإنك ذاهب وتارك أموال جمعت ومملكة
فما الهدف المنشود يا زاهد الذي أردته من دنياك من قبل تهلكة
ومن أهم ما يتميز به القائد القدرة على تحديد الهدف بوضوح، أو النية بالمفهوم الإسلامي، لذلك يقول:
نيتي أن يكون في الله سعيي طائعاً ذا الجلال والإكرام
وبقلبي حمية أن أشن الحرب ناراً على عدا الإسلام
وبقلبي قد أودعت رغبتي أن أمحو الكفر والظلام تماماً
يتكرر ذكر الموت كثيراً في شعر محمد الفاتح، ويرتبط بعدد كبير من المفردات، مثل: الضريح، اللحود، الدار الآخرة، وهو يربط الغزل بالحكمة.
التقوى والتطلع للآخرة
يدعو محمد الفاتح نفسه والناس للتقوى، ويمكن أن يشكل ذلك مفتاحاً مهماً لفهم رموزه ودلالاتها، ومعانيه الجديدة، وهو يربط التقوى بالجهاد، حيث يقول:
اتق الله ما استطعت واقتف منهج الأنبياء والأولياء
ومني قلبي لطف ربي بنا بالنصر عند الجهاد على الأعداء
وفي هذه القصيدة يشير إلى فتح القسطنطينية، ويعتبر أن هذا النصر من معجزات الرسول صلى الله عيه وسلم أحمد المختار، وبذلك لا ينسب الفضل لنفسه، فيقول:
إنها يا محمد بن مراد معجزات لأحمد المختار
وبها أسأل المهيمن عوناً فاتح ديننا به كل دار
وانهياراً لدولة الظلم دكاً وانتصاراً لدولة الأبرار
بذلك يشكل محمد الفاتح صورة دولته، فهي دولة الأبرار، التي تجاهد لتدك دولة الظلم، وتدفعها للانهيار، وهو يهمه انتصار الإسلام، في أي مكان، وعلى يد أي قائد، حيث يقول:
ما يفيد مرء بنفس وبمال لأجل هذه الدنيا
فهي تفني، والشيء لله يبقى والرضا غاية لنفسي عليا
وإذا الإسلام حقق نصراً أحمد الله أين كان وأيا
وهو يذكر نفسه بشكل مستمر بالهدف، فهو إرضاء الله سبحانه وتعالى، حيث يقول:
إذا ما انتهي العمر فإنك ذاهب وتارك أموال جمعت ومملكة
فما الهدف المنشود يا زاهد الذي أردته من دنياك من قبل تهلكة
الزهد مفتاح الفهم
ومن الواضح من قصائده أنه يخاطب نفسه دائماً بلقب الزاهد، وهي صفة أجمع عليها المؤرخون في سلوكه وحياته الخاصة، وهي تتضح في شعره وحكمته، وهو يتعلق بالأمل في رحمة الله وعفوه مهما بلغت الذنوب
وبالرغم من أنه عاشق، يقدم لنا الكثير من المعاني الجديدة في التعبير عن الأشواق، لكنه يأمر نفسه بعصيان هواها، والسير على الصراط المستقيم فهو طريق الفوز.
بذلك يحدد محمد الفاتح طريقه، وأهداف حياته، وكان لثقافته الإسلامية دورها في هذا التحديد الواضح، وهو ينسج قصائده في الحب كإنسان يخفق قلبه ويشتاق، لكنه يعمل لتحقيق نصر الإسلام، ودك دولة الظلم الذي يتحمل مسؤولية القيادة، ويتطلع لتحقيق هدف عظيم.
سمات المستشارين
وهو يشير في شعره لسمة مهمة من سمات القيادة؛ وهي استشارة العلماء، ولقد كان حريصاً على أن يجمع العلماء في مجلسه ويكرمهم ويستشيرهم، لكن ماذا يقول عن ذلك في شعره؟
أيا عوني إذا ما رمت قولاً فشاور مرشداً فطناً أمينا
من أهل العلم ذا تقوي حكيماً ودع عنك الرعاع الجاهلينا
بذلك يحدد محمد الفاتح صفات المستشارين الذين يجب أن يأخذ برأيهم، وهذه الصفات هي العلم والتقوى والحكمة والفطنة والأمانة، فكيف تمكن من أن يجمع كل تلك السمات في بيتين من الشعر.
يوضح ذلك أن شخصية محمد الفاتح لم تكن بسيطة، فقد كان مثقفاً صاحب رؤية، تمكن من تحديد أهداف حياته، وتشكيل صورة دولته، وتشكيل مجلس شورى من العلماء في كل المجالات، وخاض معارك غيَّرت مسار التاريخ، وأصبح الملوك في كل العالم يتطلعون له باحترام وتقدير وإجلال، ويتمنون إقامة علاقات سلام معه.
وفي الوقت نفسه، كان مثقفاً وحكيماً وشاعراً يبتكر المعاني الجديدة في التعبير عن أشواق القلوب للمحبوب، وهكذا تتكامل رقة الشاعر المحب مع قوة الفارس الذي غبرت المعارك وجهه وقدميه وثيابه.
هناك سمة أخرى يمكن أن نستنتجها من شعره؛ هي أنه يبحث دائماً عن أفكار جديدة تغير الواقع، وأنه صاحب خيال ثقافي وحضاري وسياسي وعسكري؛ لذلك يمكن أن نفهم كيف ابتكر فكرة نقل السفن على البر، فلم يكن البيزنطيون يتوقعون تلك المفاجأة، ولم يكن خيالهم يصل إلى تلك الآفاق، فهل كان لخيال الشاعر دوره في الإبداع والابتكار وتغيير الواقع؟! قراءة ديوان محمد الفاتح تؤكد أهمية الخيال في تحقيق الإنجازات العظيمة، وأن القائد يجب أن يطلق لخياله العنان ليكتشف لأمته آفاق المجد والنصر.