مسافر حدّد غايته من السفر وعرف طريقه إليها، وتزوّد له زاده وهيّأ عتاده، ومشى فنزل منزلاً يستريح فيه، فأعجبه منظره وراقه جماله فبات فيه ليلة، فلما أصبح وهمّ بالمسير قالوا: إن ها هنا مهرجاناً يأتيه الناس من كل مكان ولم يبقَ دونه إلاّ يومان، أفتسير وتدع المهرجان وأنت في المكان؟ ألا تمشي إليه فتزوره؟ قال: بلى. فلما انتهى وأزمع السفر قالوا: إن أمامك بلداً قريباً لا يُترَك مثله وهو مقصود من بعيد، فكيف بك وأنت منه قريب، أفيصحّ عندك أن تمشي ولا تراه؟ قال: لا، لا يصحّ، فلنبقَ حتى نراه.
وما زال يقصد بلداً بعد بلد، وليسَت هذه البلاد على طريقه والمشيُ إليها يُطيل عليه الطريق وينأى به عن الغاية.
أنا يا سادة ذلكم المسافر، وأنا واقف الآن حائر؛ إن مضيت في سرد ذكرياتي مع السنين أضعت وحدة الموضوع وقطعت أوصال الحوادث، وفعلت ما فعل شيخ المؤرّخين ابن جرير ومن بعده ابن الأثير وابن كثير وكل من رتّب تاريخه على السنين. ومَن راعى الموضوعات وجمع أطراف الحادثات مشى في طريق
التاريخ ورجع، كمن يسعى بين الصفا والمروة. ولكن الساعي يؤدّي عبادة ويرجو عليها أجراً، وهذا يذرع الطريق بلا زاد ولا رفيق ولا أجر ولا تعويض!
كان عليّ أن أكمل الكلام عن عملي في القضاء، فقد تركتكم في محكمة دمشق تنتظرون بقيّة حديثها، ومشيت مع الذين كتبوا عن الأدب في بلاد العرب قبل نصف قرن، رحلت معهم من الحجاز إلى تطوان وفاس، فلما عدت وجدت الاحتفال بذكرى النضال في الجزائر فتكلمت عن الجزائر. واليوم هو يوم التضامن مع شعب فلسطين والصحف وأصحابها وكُتّابها يكتبون عن فلسطين، فهل أستطيع أن أمرّ بهذا اليوم ولا أتكلّم عنها؟ لا متضامناً مع شعبها كما يفعل البعيدون عنها، فأنا الضامن وأنا المضمون، أنا ابن فلسطين لأني ابن الشام، إنها بلدي كما أن دمشق بلدي.
القدس أقرب إلى دمشق من نصف مدن سوريا. وكما عرّفني بالجزائر وتونس وطرابلس (ليبيا) والمغرب مشايخ وأساتذة لنا منها، أحببناهم فأحببنا البلاد التي أخرجَتهم وكانت إليها نسبتهم، فلقد حبّب إليّ فلسطين أولَ الأمر أساتذة ومشايخ وإخوان لنا من فلسطين.
حسني كنعان (رحمه الله) الذي مرّ بعض حديثه، والذي جاءنا معلّماً سنة ١٩١٨ ثم صار صديقاً وواحداً من رفاق العمر، وهو من نوادر الدهر طِيبَ قلبٍ وصفاءَ حنجرة وجمال صوت.
ولقد سمعت من الأصوات ما يستعصي على الحصر، فما وجدت أحلى ولا أطرى ولا أعذب من صوته لمّا كان شاباً. وكانت له معرفة قليلة بالموسيقى، يعزف على القيثارة ولم يُحسِن العزف عليها. وكان أشهر وأقدر مَن يعلّم الأناشيد المدرسية، وربما ألّفها ولحّنها، أي فعل ما يفعل كثير مِمّن يُسمَّون ملحّنين: يأخذ ممّا يحفظ جُمَلاً موسيقية يغيّر نسقها ويبدّل ترتيبها، فيجعلها لحناً جديداً أو كالجديد ويدّعي أنه له. وربما عمد إلى لحن لا يعرفه إلاّ قليل من الناس فنسبه إلى نفسه، أو ربما حفظه ثم نسي أنه حفظه وأنه لغيره فظنّ أنه له، كما فعل ملحّن نشيد «بلادي بلادي منار الهدى» الذي أحفظ لحنه من أيام شبابي.
وحسني كنعان أوّل من علّمني الإنشاء العربي (وكنّا نتعلّم على عهد الأتراك الإنشاء بالتركية)، ثم شرع يكتب، ولقد كتب مئات من المقالات، وكان كاتباً ساخراً يسخر حتى من نفسه ويروي النكتة ولو كانت عليه. وقد تكلّمت عنه كثيراً في هذه الذكريات وسأعود إلى الكلام عنه كثيراً.
وممّن هم في منزلة معلّمينا ثم صاروا من زملائنا في التدريس زهدي الخمّاش، وهو من مؤلّفي الكتب المدرسية في الدين. وكانت قد أصابته آفة لست أدري ما هي (ونسأل الله السلامة من الآفات) ففتحوا له في مقدّم عنقه فتحة كان يتنفّس منها، وكان يتّخذ له صداراً صغيراً يسترها، فإذا أراد أن يتكلم مدّ إصبعه من وراء الصدار فسدّها.
ومن هم في منزلة مشايخنا من أهل فلسطين الشيخ سعيد الكرمي، العالم الأديب وأولاده كلهم أدباء: أحمد شاكر صاحب «الميزان»، وحسن الكرمي الذي كان في إذاعة لندن، وعبد الغني وعبد الكريم (أبو سلمى)، وهما رفيقاي في مكتب عنبر. والشيخ عبد الله العلمي وأولاده كلهم أطباء وهم إخواننا.
وكان من معلّمينا الفلسطينيين في الابتدائية عبد الهادي الخليلي. وأنا أميّز الخليلي من النابلسي من الغزّي كما أميّز الحلبي من الحِمْصي من الحوراني من لهجة كلامه، وكما أميّز الإسكندراني من الصعيدي والموصلي من البغدادي.
وممّن عرفت الأستاذ عِزّة دروزة، العالم المؤلّف وأحد أركان القضية الفلسطينية، الذي توفّاه الله من أيام عن مئة عام. والنشاشيبي، ولي معه صحبة طويلة، عرفته في الشام عند كرد علي وفي مصر عند الزيات، ثم اتصل الودّ بيني وبينه إلى أن توفّي. كانت أول معرفتي به في فندق الشرق (أوريان بالاس) في دمشق، ذهبنا نسلّم عليه مع سعيد الأفغاني وحسني كنعان ورفاق لنا، فلما رأيناه كان قد نسي أن يعقد أزرار بنطاله (وإن كانت لا تكشف عن شيء ممّا وراءها)، وسمعنا لجهته العجيبة التي كان يتفرّد بها، فضحكنا أو كدنا. ثم ظهر لنا واسع اطّلاعه وكثرة مرويّاته.
ولمّا أصدر كتابه «الإسلام الصحيح» (وكأنه كان موجّهاً ضدّ آل الحسيني، لِما كان بين الأسرتين من النزاع) وجدت فيه ما لا يوافق الإسلام الصحيح، فنقدته نقداً قاسياً جداً على طريقتنا في تلك الأيام، اتّباعاً لمذهب شيخَي الأدب الرافعي والعقّاد. ثم ندمت على اتباع هذا الأسلوب، وندمت مرة أخرى لأنني نشرت الردّ في مجلّة «المكشوف» عند فؤاد حبيش. ثم انقشعَت هذه الغمامة وعاد الصفاء ورأيت فيه مزايا جَمّة.
وهو أول مَن نظم من الشعر ما يشبه هذا المذهب الجديد (شعر التفعيلة كما يقولون)، وذلك حين أراد أن يرثي شوقي فعجز عن نظم القصيدة، فجاء بشيء هو بين الشعر والنثر: أبيات موزونة لا يجمعها بحر واحد ولا قافية واحدة، سَمّاها «ذات البحور والقوافي»، وهي في رسالة له عن شوقي. وكان إذا ألقى محاضرة طبعها آنَق طبع على أجود ورق، ووزّع أكثرها هدايا.
وكنّا في مصر يوم تُوفّي رحمه الله، وقد سهرنا معه في الفندق (الكونتيننتال) وفارقناه وهو حيّ مُعافى، فلما أصبحنا بلغَنا نبأ وفاته، وحيداً إذ لم يكن له زوج ولا ولد.
أما الحاجّ أمين الحسيني المفتي فقد جمعني به رحمه الله حَجّ سنة ١٣٩١هـ، وكنّا معاً في فندق مصر. وعرفته في مؤتمر القدس الذي أخذني إليه أخي الشيخ محمد محمود الصواف سنة ١٩٥٤م. وللصواف ولهذا المؤتمَر، وللرحلة التي رحلتُها بعده فقطعت فيها ربع محيط الأرض وزرت فيها الهند والسند وسنغافورة وأندونيسيا، لهذا كله حديث طويل سيأتي إن شاء الله عمّا قريب.
ومثل الحاجّ أمين الحسيني لا يُعرَّف به في مقالة لأنه أعرف من أن يُعرَّف، ولكن أذكر واقعة واحدة لعلها أدلّ عليه من مقالات.
ولمّا كتب إميل لودفيغ (الألماني اليهودي الذي كان هو وأندريه موروا الفرنسي أقدر من اشتغل في هذا العصر بتراجم الرجال)، لما كتب لودفيغ عن فولتير ما زاد على أن أخذ مشاهد من سيرته أحسبها كانت عشرة، عرضها عرضاً وسردها سرداً ولم يعلّق عليها بشيء، لأنها تغني بسردها عن التعليق عليها.
لمّا كَثُر المتكلمون على الحاجّ أمين بعد ضياع فلسطين واتهموه -بالحقّ أو بالباطل- بأنه هو والهيئة العربية العليا كانوا بتقصيرهم من أسباب هذا الضياع، وكان عندي يوماً الأستاذ محمد كمال الخطيب وهو محام من أبرز العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، له لسان وله قلم ويملك الحُجّة والبلاغة التي يعرضها بها، أراد أن يلقى الحاجّ أمين، فأخذت له ولمن معه موعداً من الحاجّ أمين، على أن يسمع منهم كلّ ما يُقال عنه وأن يسمعوا منه ما يُجيب به. وكان الاجتماع كما أذكر في دار الشيخ موسى الطويل رحمه الله، وكانت داره مواجهة داري في المهاجرين في دمشق. فذهب الأستاذ محمد وذهب معه الأستاذ زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي وأخي ناجي (وأنبّه -بالمناسبة- إلى أن يختلط الاسمان: اسم ناجي الطنطاوي الشيخ الذي كان قاضياً وهو الآن مستشار شرعي في وزارة الحجّ والأوقاف هنا من إحدى وعشرين سنة، وناجي الطنطاوي المذيع والممثل الشابّ الذي يقيم أيضاً هنا).
أقول إنهم ذهبوا إليه، ولم أذهب معهم. وأسمعوه كل ما يقال عنه وما يوجَّه من تُهَم إليه، صرّحوا به تصريحاً ما لوّحوا تلويحاً ولا لمّحوا تلميحاً، وهو صامت لا تتحرّك في وجهه عضلة، مصغٍ إليهم ما أعرض عنهم ولا ضاق بهم، كأنهم يقصّون عليه قصّة من قصص الأوّلين فهو يستمع إليها بلا انفعال ولا غضب. ومضت ساعة وربع الساعة، حتى إذا انتهوا قال: هل بقي شيء؟ قالوا: لا. وماذا بقي وهم ما أبقوا عليه؟ قال: اسمعوا … وطفق يعيد التهم كما أوردوها ويردّ عليها واحدة واحدة، رداً منطقياً هادئاً مؤيَّداً بالبرهان مقوّىً بالدليل، فخرجوا وهم يحملون العجب منه والإعجاب به، وصاروا بعد ذلك معه وكانوا من قبلُ عليه.
وكذلك يمتلك الكبار أعصابهم. وسأحدّثكم عن واقعة مثلها لنواب صفوي، الزعيم الإيراني، مع الرئيس الشيشكلي على أيام حكمه في الشام.
مررت بفلسطين أوّل مرة -كما حدّثتكم- لمّا ذهبت إلى مصر سنة ١٩٢٨، ووقفت بها في سفرتي الثانية سنة ١٩٢٩ فزرت مع رفيقنا حسام الدين القدسي (ناشر الكتب المعروف الذي تخرّج قبلنا في كلية الحقوق في دمشق ولكنّه لم يشتغل قاضياً ولا محامياً، بل آثر الاشتغال بتحقيق الكتب ونشرها، والذي نشره منها يملأ خزانة كاملة) زرت معه أكثر مدن فلسطين وقابلت جماعة من أعيانها، منهم الشيخ الخالدي الذي زرناه في القدس، وهو صاحب المكتبة الكبيرة في داره، وخلاصة أسماء كتبها ومؤلّفيها والمخطوطات وأمكنة وجودها في ذهنه، فكأنّ الذي استوعبه ذهنه عن الكتب مكتبة أخرى بل مكتبات مجموعة، وهذا الذي دهش منه الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله، حتى كتب عن مجالسه في «الرسالة» مقالات كثيرة.
والمرة الثالثة التي زرت فيها فلسطين كانت لمّا ذهبت إلى مصر سنة ١٩٤٥، والرابعة بعدها بقليل لمّا أوفدَتني وزارة العدل في دمشق إلى وزارة العدل في القاهرة فأقمت فيها سنة، وكان لي فيها (أي في مصر) مكتب في إدارة التشريع، وحضرت بعض جلسات اللجان القانونية الشرعية، وعرفت الرجل العالم القانوني الشيخ محمد فرج السنهوري وتوثّقَت الصلة به في داره في حيّ السيدة وفي مكتبه في الوزارة. وعرفت جلّة من القُضاة والعلماء منهم المحدّث الثقة والكاتب البليغ الشيخ أحمد شاكر، أمّا أخوه الأستاذ محمود شاكر فعرفته وصادقته من يوم رأيته عند خالي مُحبّ الدين في المطبعة السلفية في شارع الاستئناف من أكثر من خمسين سنة، وجالسته عشرات من المرات في مصر عند خالي وعند الزيات وفي داره في مصر الجديدة (إن صحّ ما أذكر) وفي داري في الشام وفي مكّة هنا. وهو رجل لم يبقَ له في بابَته نظير. وكنّا نصطدم ونتجادل ونتصاول تصاوُل الأعداء ثم نفترق تفرّق الأصدقاء، وأنا أُحِبّه وأُجِلّه وأعرف له فضله.
زياراتي لفلسطين لا أستطيع أن أُحصيها، وكانت آخر مرة رأيتها فيها سنة ١٩٤٧، وكان قد اتّسع بنيانها وامتدّت أطرافها. وصعدت جبل الكرمل في حيفا الذي صار فيه أحياء جديدة وامتلأت الأحياء بالبيوت الأنيقة، وكانت الحافلات (الباصات) تصل إلى أعلاه. ولكني لمست أثر اليهود في الرجس الذي بثّوه في أرجائها، حتى إنني لمّا ذهبت أسأل عن فندق مناسب قال لي المسؤول: أتريد فندقاً للنوم أم لـ … وأشار بيده إشارة قرنها ببسمة من فيه. قلت: ما أدركت ما تريد. قال: تريد فندقاً ببنات أم بلا بنات؟ فتركته وانصرفت عنه وحسبته يمزح معي أو يسخر مني.
ولكني لمّا ولجت كثيراً من الفنادق دخلتها لأختار واحداً منها، رأيت بنات جالسات كأنهنّ من نزيلات الفندق، وعلمت بعدُ أنّهُنّ يهوديات، ثم خبّروني أن من شاء أشار بيده إلى واحدة منهنّ دلّ عليها كاتب الفندق، فذهب معها نصف ساعة إلى غرفتها أو ذهبَت معه ليلة أو بعض ليلة إلى غرفته.
بغاء مُعلَن وعهر ظاهر! فماذا أصنع؟ أأبيت في فندق فيه مومس وأنا قاضٍ شرعي وكاتب يدعو إلى الدين والعفاف؟ وجُلت في البلدة القديمة، قلت: أضيّع الوقت حتى أجد مكاناً مناسباً أنزل فيه. فمررت بسوق الخضر ورأيت أكوام القمامة والخضر فاسدة رائحتها تملأ المكان، فسألت: ما هذا؟ وأين البلدية؟ قالوا: إن البلدية تنظف الأحياء اليهودية والجديدة وتُهمِل الأحياء الإسلامية، تدعها فلا تلتفت إليها. فقلت: أما في البلد علماء؟ أما فيه جمعيات إسلامية تُعنى بالإصلاح؟ قالوا: بلى، هذه الجمعية الخيرية.
وأشاروا إلى مكان قريب منّا، فصعدت سُلّماً فإذا أنا في رحبة متّسعة فيها الأعضاء مجتمعون، عرفت منهم الشيخ نمر الخطيب ولكنه لم يعرفني. فوصفت لهم ما رأيت من القذارة المعنوية في الفنادق والقذارة المادّية في السوق، وحملت عليهم حملة منكَرة، ونفثت ما في صدري ونفّست بذلك عن نفسي، وبدا لي أنني أوجعتهم بالكلام فاعتذروا بأنهم لا يملكون شيئاً، وذكروا اليهود والإنكليز.
والإنكليز رأس كل بلاء رأيناه، وهم الذين جاؤوا باليهود وكانوا يحمون اليهود.
قلت: هل يمنعكم الإنكليز واليهود من أن تنبّهوا الناس إلى أن الطهور شطر الإيمان، وأن النظافة من شأن المسلم، وأن إزالة أكوام القمامة من الساحة من شُعَب الإيمان لأن الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق؟ فالذي ينظّف الطريق يكون متمسّكاً بهذه الشعبة من شعب الإيمان ومن يوسخها يكون بعيداً عنها. قالوا: عرّفنا بنفسك، فمن أنت؟ قلت: إن الذي يعنيكم هو ما أقول، فإن كان صحيحاً فاعملوا به ولا يضرّكم أن تجهلوا القائل.
فنظر إليّ الشيخ نمر (وكنت قد لقيته قبل ذلك مرتين) فعرفني. ثم ذهبنا بعد انتهاء الجلسة إلى دار القاضي نزوره، وكان في عمارة تحتها مقهى (١) رأيت فيه نساء جالسات، فقلت: وهل تجلس النساء عندكم في المقاهي؟ فكأنهم خجلوا من سؤالي وأحبّوا أن يبتعدوا عن جوابي، فأصررت، ففهمت منهم أن هؤلاء الجالسات يهوديات يقعدن في المقهى ليستلبنَ شاباً غريراً يفسدن أخلاقه ودينه. ونظرت من الشارع فرأيت رجلاً اقترب من واحدة منهن فكلّمها كلاماً لم أسمعه لأنني بعيد عنه، ثم رأيتها تقوم وتمشي معه.
وكذلك حاربَنا اليهود: بالسلاح الذي أخذوه من أميركا، وبالرجال الذين جاؤوهم من روسيا، وحاربونا بالبنات. سلاحهم أنواع ثلاثة كلها فاجرة عاهرة داعرة.
ولقد حدّثني جندي كان يقاتل في حرب ١٩٤٨ أنه رأى في طرف البلد داراً ينبعث منها الرصاص على المقاتلين العرب، فاقتحمها عربي باسل فلم يلقَ إلاّ مجندة واحدة يهودية، نفدت ذخيرتها كانت تحمل رشّاشاً تطلق الرصاص منه فلم يبقَ عندها رصاص، فاستعملَت سلاح اليهود. وسامحوني إن خبرتكم بما وقع: إنها حلّت حزام بنطالها فأسقطته، فنظر فإذا ليس تحته شيء.
والعرب تقول في أمثالها: «تجوع الحُرّة ولا تأكل بثديَيها»، أمّا اليهودية فتأكل من غير أن تجوع بكل عضو فيها. ويأتي مَن ديدنه التقليدُ على طريقة القرود، والأخذ بكل جديد ولو كان شراً مصدره اليهود، فيدعو أن نجعل في جيشنا نساء مجندات وأن نعلّمهنّ فنون القتال!
لماذا ويحكم؟ لماذا؟! لماذا والشباب يملؤون القهوات ويزدحمون على أبواب السينمات، فلماذا نجنّد البنات؟ هل عندكم من دليل فتُبدُوه لنا أم هو اتّباع سنن الفُسّاق حتى في الدخول إلى جحر الضبّ؟ ويا ليته كان جُحراً سالماً، ولكنه جحر ضبّ خَرِب كما جاء في المأثورات.
قد يقول قائل: فلماذا إذن ضاعت فلسطين؟
إن ضياع فلسطين جريمة ستحكم فيها محكمة التاريخ حين تسقط قيود المنافع والمجاملات وحُجُب الجهل والغفلة وينكشف الخفيّ ويفتضح المزور؛ عندئذ يستطيع التاريخ أن يحقّق في هذه الأحداث وأن يكشف ملابساتها ويحدّد المسؤول عنها. على أن المحكمة الكبرى هي التي تكون يوم الحساب بين يدَي رب الأرباب، يوم لا تخفى عليه خافية، يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا جند ولا أعوان.
إن النصر يكون بالعَدد، وإن كانت كثرة العدد لا تُجدي إن لم يكن معها العُدَد الكافية. والعَدد والسلاح لا ينفعان إن لم يكن معهما العلم، وهذا كله لا يأتي إلاّ بالمال. فهل ينقصنا نحن المسلمين العدد؟ نحن ألف مليون واليهود بضعة ملايين، لو أننا (وعفوكم عني إن جئت بمثال بشع) لو أن كل مسلم بصق بصقة لأُغرِق يهود العالَم، ولو أنه نفخ نفخة وجُمعت هذه النفخات لأطارَتهم، ولو ألقى عليهم كل واحد نعله القديم لماتوا ودُفنوا في قبر من النعال!
وإذا كان العدد لا ينقصنا، وإذا كان ما عند المسلمين من السلاح أكثر ممّا عند اليهود، وإذا كان مجموع العلماء من المسلمين، العلماء بالطبيعة وعلومها، أكثر ممّا عند اليهود، وإذا كنّا معشر المسلمين جميعاً نملك من المال أكثر ممّا عند اليهود، فما الذي ينقصنا؟
إذا كان لا ينقصنا العدد ولا ينقصنا المال ولا ينقصنا السلاح ولا ينقصنا العلم، فما الذي ينقصنا؟ إن الذي ينقصنا هو الإيمان: أن نكون مع الله حتى يكون الله معنا، أن نُدخل الإسلام في المعركة،
فلا نجعلها معركة استرداد الأرض فقط ولا نجعلها فلسطينية فقط ولا عربية فقط، بل نجعلها معركة إسلامية. إنها قضية المسلمين جميعاً ليست قضية العرب وحدهم.
وسترون حين أحدّثكم عن المؤتمر الإسلامي في القدس الذي حضرته ورحلنا على أثره إلى أكثر بلاد المشرق الإسلامي أن قضية فلسطين يشركنا فيها كل مسلم، ألف مليون يَمُدّون أيديهم ليكونوا معنا، فلماذا نُعرِض عنهم ونقبض أيدينا دونهم؟ وإذا سمحتم لي قلت الآن كلمة صغيرة عن هذا المؤتمر ثم رجعت إليه إذا جاء وقت الحديث عنه فتكلّمت بالتفصيل.
لقد كان مؤتمَراً إسلامياً للنظر في نكبة فلسطين وطريق العمل على نصرتها، وَفَدَت عليه الوفود من بلاد الإسلام كلها، من مرّاكش إلى أندونيسيا فكان «برلماناً شعبياً» مثّل كلَّ بلد فيه ناسٌ من زعمائه ومن كبار أهله.
وقد أوفدَت بعض البلاد رجالاً لهم صفة رسمية، كالأستاذ عبد المنعم خلاّف الذي حضر من جامعة الدول العربية مراقباً والدكتور سوبارجو وزير خارجية أندونيسيا السابق، وأوفدَت بعضُ الدول رجالاً يمثّلون أحزاباً أو هيئات معروفة، كالأستاذ علاّل الفاسي رئيس حزب الاستقلال في المغرب، والأستاذ الشيخ الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، والأستاذ القليبي رئيس حزب الدستور القديم في تونس، واللواء صالح حرب باشا الرئيس العامّ لجمعيات الشبّان المسلمين في مصر، والأستاذ الشيخ أمجد الزهاوي رئيس جمعية إنقاذ فلسطين في العراق، ومندوب عن الكاشاني في إيران، ونَوّاب صفوي عن فدائيّان إسلام في إيران، وسعيد بك شامل حفيد الشيخ شامل زعيم مسلمي القوقاز، وابن الشيخ صادق المجدّدي الزعيم الديني الأفغاني ووزير الأفغان في مصر.
ورأى أعضاء المؤتمر القدسَ وما حلّ بها والقرى الأمامية ومصابها وشاهدوا آثار المأساة وبقاياها، ولم تكن قد ذهبَت هذه كلّها إلى أيدي اليهود، رأوا ذلك فتقاسموا وتحالفوا على نذر أنفسهم للعمل لها.
وانتخب المؤتمر لجاناً ثلاثاً، كانت إحداها لجنة للدعاية لفلسطين والتعريف بقضيّتها، وشرّفني المؤتمَر برياستها وكلّفها أن تطوف العالَم الإسلامي تعرّف بفلسطين وتدعو الناس لإمدادها بالمال.
وكنّا خمسة: اثنان من العراق: الشيخ الزهاوي والشيخ الصواف، واثنان من الجزائر الشيخ الإبراهيمي والأستاذ الفضيل الورتلاني، وأنا. ذهبوا جميعاً إلى رحمة الله إلاّ الشيخ الصواف مدّ الله في عمره، وأنا أحسن الله ختامي.
واعتذر الجزائريان، ورجع الصوّاف مضطراً من كراتشي لمصلحة إسلامية دعته للرجوع، فبقيت مع أستاذنا الجليل بركة العصر، الشيخ أمجد الزهاوي رحمة الله عليه. وكان علينا أن نجمع المال، ولكنا خفنا أن يقول الناس إننا سرقنا أو أخذنا لأنفسنا فآثرنا السلامة، وجعلنا عملنا أن نشرح للناس قضية فلسطين ونصف لهم مأساتها ونعرض عليهم أدوارها، وأن نؤلّف اللجان في كلّ بلد لتجمع هي المال لها وتبعثه مع أمناء منها.
ولقد ألقيتُ في هذه الرحلة التي وصلنا بها إلى آخر أندونيسيا (حيث لم يبقَ بيننا وبين أستراليا إلاّ مرحلة واحدة بالطيّارة) وأمضينا فيها شهوراً، ألقيتُ فيها ثلاثاً وأربعين محاضرة وخطبة عن فلسطين، وعقدت ثمانية وعشرين مؤتمَراً صحافياً، وشغلت بها ستّ إذاعات وأكثر من أربعمئة جريدة ومجلّة.
وسيأتي إن شاء الله الحديث المفصّل عن هذه الرحلة، ولكنْ أردت الآن أن أقول إننا وجدنا المسلمين في كل مكان يهتمّون بقضية فلسطين مثل اهتمامنا، ولا يُزعِجهم منّا إلاّ أننا جعلناها معركة عربية فقط؛ أي أننا قلنا لهم: تفضّلوا اخرجوا فما لكم معنا مكان! فلما قابلنا (الشيخ الزهاوي والشيخ الصواف وأنا) الحاكمَ العامّ بباكستان يومئذ (سنة ١٩٥٤) غلام محمد، عرّض بهذا ولامنا عليه، كأنه يقول: إذا كنتم تجعلونها معركة عربية فلماذا جئتم إلينا؟
فاستأذنت الشيخين وقلت له: يا فخامة الحاكم. القدس مسرى محمد نبيّنا ونبيّكم، والمسجد الأقصى كان القبلة الأولى لنا ولكم، فالقضية قضيّتنا وقضيّتكم يطالبنا بها ويطالبكم الله ربنا وربكم. فهَبْ أن العرب قصّروا أو تقاعسوا، فهل يُنجِيكم عند الله أن تفعلوا مثلهم؟
صدّقوني لقد كان كلامه الذي أجاب به ممزوجاً بالبكاء، وكان دمع عينيه ينساب على خديه، وأجابنا إلى كل ما طلبنا.
لم ينته الموضوع فعذراً، وإلى حلقة آتية إن شاء الله.
_______________
المصدر: كتاب «ذكريات».