تتداعى الأمم على أمتنا، وتتشابك القضايا، وتتقاطع المصالح، وتتعدد الرؤى والمسالك، ويتطلع المسلمون إلى مسار، وتشرئبُّ أعناقهم إلى خندقٍ يحتمون فيه من لهيب المعركة، وطوفان التجريف الذي يتهدد الأمة في أي لحظة من ليلٍ أو نهار.
طوفانٌ يقسم الأمة إلى معسكر إيمانٍ لا نفاق فيه، ومعسكر نفاقٍ لا إيمان فيه، يتمايز فيه أهل الحق من الباطل، ويُفصل فيه الخبيث عن الطيب، فيهلك من هلك عن بينةٍ، ويحيى من حيَّ عن بينةٍ، وفق قانونٍ قرآنيٍّ مطردٍ لا استثناء فيه، قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (الرعد: 17).
في هذا الوقت العصيب، تتطلع الأمة إلى خندقٍ يحتمي فيه المؤمن من غارات الكفر المتلاحقة، ومكره المتنوع، ونيرانه الحارقة، ومخططاته الماكرة، فمتى تجد هذا الخندق؟ وأين عساه أن يكون؟
خندق الاستسلام للكفر والطغيان
إن خندق الأمان لن يكون عند تلك الراية التي تنادي بالتماهي مع مخططات الأعداء، والاستسلام للواقع البئيس، وعدم الوقوف في وجه العاصفة، والرضا بالحد الأدنى من الوجود على هامش الحياة، أو على الأكثر الانخراط داخل منظومته لمحاولة تحقيق أي صورة من صور الإصلاح ولو كانت ضئيلة! لأن هذا مهادنةٌ للظلم حذَّرنا الله تعالى من الحد الأدنى منها، فقال سبحانه: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود: 113)، وهو جهلٌ بمصير هذا الطوفان؛ لأنه مهما طال به المقام فهو إلى بوارٍ وخسران، قال تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۖ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: 81).
وقد وصف الله تعالى عاقبة قوم سارعوا إلى التماهي مع معسكر الكفر والطغيان، وحذَّرنا من مصيرٍ محتومٍ يلاقيهم، وسيعاقب به كل من سار على نهجهم في كل العصور والأزمنة، فقال تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة: 52).
و«عسى» في القرآن لحتمية التحقق وليست للرجاء، وكأن الله تعالى يُخبرنا أن مصير هذا المسار أنه سبحانه سيأتي بالفتح يقينًا، أو يجري حوادث مخالفةً لتوقعاتهم وتطلعاتهم، فيندموا بعد فوات الأوان، ويُكشف ما انطوت عليه نفوسهم الخبيثة من مرضٍ وجُبنٍ وخور.
خندق النفاق والمداهنة
إن خندق السلامة لن يكون كذلك بالانتساب لثلة المنافقين من أنظمة الاستبداد والطغيان الجاثمة على صدور الأمة، تهدر ثرواتها، وتُغلق أفواهها، وتُغير هويتها، وتَسلب إرادتها، وتَحرمها حريتها، وتستعبدها لخدمة المنظومة الدولية المارقة عن شرع الله ودينه، المعادية لمنهج الإسلام وقيمه، المحاربة لشريعته، المُغيِّرة لفطرته.
لن يكون بالتماهي مع منظومة النفاق في المنطقة حلاً ولا مخرجًا، بل سيكون إمعانًا في السقوط، وتماديًا في الهبوط، ومزيدًا من الخيبة والإخفاق، واستمرارًا لدفع مزيدٍ من أبهظ الأثمان، فلا أمان معهم، ولا صديق لهم، ولا مستقبل لوجودهم، فالله تعالى وعد بكشف أمرهم وفضح باطلهم، وصدق الله تعالى إذ يقول: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۖ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 9).
وقد حذَّرنا الله تعالى من مسلكهم حيث تحيط بهم العقوبة، ويُحجب عنهم النصير، قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) (النساء: 145)، وعاقبتهم ستكون بجمع سكان خندقهم ومن انتسب إليهم مع خندق الكفار ومن لاذ بهم في النار، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء: 140).
خندق الإلحاد
لا أعتقد أن الهروب إلى خندق الإلحاد يقوم به عاقلٌ أو ينصح به راشد، فهو خندق الانتحار بمخالفة الفطرة والتمرد على رب الكون، والتنكر لقوانين الكون ودلائل الإيمان القاطعة، فيظن في أول أمره أنه نجا بمعزلٍ عن الآلام، ولكنه لم يدرك أنه سقط في الضنك الذي لا غنى بعده، والهمِّ الذي لا فرج بعده، والحزنِ الذي لا فرح بعده، والاضطرابِ الذي لا استقرار بعده، فيفقد طمأنينة الحاضر، ويتلظى بنيران الخوف من المستقبل، وصدق الله تعالى إذ يقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ۖ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) (طه: 124)، وقال تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31).
خندق الانسحاب
وهو خندق الانسحاب من ميدان التكريم بالاستعمال إلى خندق الانشغال بحظوظ النفس والصرف والاستبدال، والهجرة إلى حيث الدعة والتراخي، والبحث عن ترف الحياة والاستمتاع بها، معرضًا عن حمل الرسالة وتبليغ الأمانة وإقامة الدين، وعدم الاضطلاع بمهمة الاستخلاف الذي خلقه الله من أجلها، وسخَّر له ما في الكون لإعانته على النجاح في أدائها!
الهروب إلى خندق الانسحاب سماه القرآن تهلكة، حيث ورد أن بعض الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام، قالوا فيما بينهم خفيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه، هلمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها! فأنزل الله الخبر من السماء: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195)، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها، ونَدَع الجهاد، فلم يكن الانسحاب أمانًا لأحد قط، قد قال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24).
خندق الأمان
اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، لا أمان في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام: 82)، وهذا يقتضي أن نعضَّ على معالم الإيمان في قلوبنا بدوام التزكية القلبية وصدق التوكل على الله تعالى، منطلقين من قوله سبحانه: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) (إبراهيم: 12).
خندق الأمان يكمن في تجديد البيعة مع الإسلام بصدق الانتساب إليه، فيعلنها السالك بكل وضوحٍ وقوةٍ وصلابةٍ ومحبةٍ واعتزاز: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: 72)، بل يسأل ربه في كل وقت: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101)، ويكون شعاره: سأعيشُ معتصمًا بحبلِ عقيدتي وأموتُ مبتسمًا ويَحيا ديني.
المساهمة في صنع السفينة
إن الطوفان الذي يهدر بأمواجٍ من الفتن كالجبال ينادي الأمة بوجوب انحيازها لصناعة سفينة النجاة دون ترددٍ أو تلكؤ.
إن صناعة السفينة واجب الوقت وأمان المستقبل، شريطة أن يكون النص القرآني حاضرًا مع نوحٍ عليه السلام: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (هود: 37).
فأول الأمر يتطلب صدق التوكل على الله والاستعانة به (بِأَعْيُنِنَا)، وثانياً أن تُبنى السفينة وفق منهج الله وشرعته (وَوَحْيِنَا)، وليس وفق تبعياتٍ للفلسفات الأرضية والتوجهات الدولية والتطلعات الحزبية.
فعلى السالكين أن ينحازوا لأهل السفينة؛ فقائمٌ يخطط أول ملامحها على الأوراق، وعاملٌ ينحت، ومهندسٌ يرسم، وصاحب مالٍ ينفق، وعابدٌ يدعو، وعالمٌ يغرس المفاهيم، ونجارٌ يغرس المسامير، ومحترفٌ يضبط حركة الألواح، فإن لم تكن من صناع السفينة فكن من المنتسبين إليها أو الداعمين لها أو القائمين على حراستها أو صيانتها أو توفير الطعام لأهلها، ومن لم يبذل في صناعة السفينة جهده إعدادًا، فلن يُستخدم يوم الطوفان جهادًا.
وأخيراً أقول: لا تستصغر عملاً، لا تتردد في غرس كلمة الإسلام في روع طفلٍ ناشئ، ولا أن تُربي على منهج الإسلام جيلًا صاعدًا، ولا أن تنحاز لقيم الإسلام في مجتمعٍ ناشز، ولا أن تنشر الأمل بكلمة صدقٍ في مجتمعٍ بائس، انطلق وأعلنها بكل وضوحٍ دون تردد: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ۚ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۗ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود: 56)، وتيقن أنك بالانحياز لخندق الإيمان قد فُزت بالوعد الرباني (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141).