إن وقف إطلاق النار في لبنان ليس منة ولا منحة من «إسرائيل»، بل إنها القوة العسكرية للمقاومة في لبنان التي أركعتهم ودفعتهم للركوض خلف اتفاق وقف إطلاق النار، فبالرغم من جحافل الدعم الغربي لـ«إسرائيل»، وبالرغم من الدعم الأمريكي الذي لم يسبق له مثيل، والدعم الغربي المطلق للكيان الصهيوني؛ أجبرت قوة المقاومة الإسلامية في لبنان «إسرائيل» على الرضوخ والاستسلام، وذهابها لحث واشنطن وباريس للتوسط لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار بعد هجمات المقاومة الواسعة وقصفها لقلب «تل أبيب» بالصواريخ، ووصول مسيراتها الانقضاضية إلى غرفة نوم بنيامين نتنياهو في قيساريا وسط «إسرائيل»!
فرحة في لبنان وحزن في «إسرائيل»
عقب الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، بدأ اللبنانيون في العودة إلى بلداتهم في الجنوب اللبناني، في ظل عدم قدرة المستوطنين على العودة إلى المستوطنات المغتصبة من الفلسطينيين، وانصب جام غضبهم على حكومتهم، متهمين إياها بالعجز عن النصر وفشلها في القضاء على القدرة العسكرية لـ«حزب الله» وعجزها عن القضاء على حركة «حماس» في غزة.
وأكد رئيس الأركان «الإسرائيلي» هيرتسي هاليفي أن «إسرائيل» ستنفذ وقف الهدنة بقوة، مشدداً على أهمية الجهد الهائل الذي بذله الجانب «الإسرائيلي» للوصول إلى هذه النقطة.
على مدار التاريخ «الإسرائيلي» الإجرامي، لم ترضخ «إسرائيل» إلى إبرام أي اتفاق أو صفقة إلا بعد أن تفشل وتُهزم، فلم توقع «إسرائيل» معاهدة «كامب ديفيد» مع مصر إلا بعد أن خسرت حرب أكتوبر 1973م، فقد أثبتت تلك الحرب أنَّ نظرية الأمن «الإسرائيلية» فاشلة، وتحطمت أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»، بعد أن عبر الجنود المصريون «خط بارليف» واستردوا أرض سيناء وأسروا جنودهم، كما هزمت الحرب العديد من العقائد والنظريات الصهيونية، ودفعت خبراء ومتخصصين لإعادة حساباتهم مرة أخرى.
ولم تبرم «إسرائيل» صفقة شاليط، منذ 13 عاماً، إلا بعد أن كبدتها حركة «حماس» خسائر فادحة، واضطرت «إسرائيل» إلى القبول بشروط «حماس» والإفراج عن عدد من المعتقلين الفلسطينيين بوساطة مصرية آنذاك، وتعدّ تلك الصفقة إحدى أضخم عمليات تبادل الأسرى العربية «الإسرائيلية»، فقط تمكن الفلسطينيون من الحفاظ على الجندي «الإسرائيلي» أسيرًا لنحو 5 سنوات رغم خوض «إسرائيل» حربين على قطاع غزة، وتضمنت الصفقة إفراج «إسرائيل» عن 1027 أسيراً فلسطينياً مقابل الأسير شاليط.
يقول مايكل ميلتشين، الباحث في معهد السياسات والإستراتيجيات بجامعة ريخمان «الإسرائيلية»، في حديث لـ«القناة 12 الإسرائيلية»: في وقت المفاوضات، كان هناك سجين واحد يجلس في السجون ويعرف بدون أدنى شك أنه سيتم إطلاق سراحه، إنه يحيى السنوار، ويضيف: أن شقيقه محمد السنوار كان من مختطفي الجندي شاليط، وكان من بين الذين احتجزوه، حيث اكتسب يحيى السنوار قوة غير عادية.
تقدير سيئ
لقد ظنت «إسرائيل» أنها باغتيالها قادة المقاومة والقتل والقصف والتدمير تستطيع القضاء على المقاومة، كما توهمت أن التوغل البري في لبنان مجرد نزهة ولم تتعلم من درس عام 2006م، لقد أسات «إسرائيل» تقدير قدرات المقاومة اللبنانية، 64 يوماً من القصف والغارات والدمار وقتل للمدنيين ولم تحقق أي إنجازات، بل اشتدت هجمات المقاومة وساد الخوف والفزع بين المستوطنين، كما تصاعدت الخسائر البشرية بين الجنود «الإسرائيليين»، وعاش المستوطنون حالة من الرعب والفزع، كما اضطر العديد منهم إلى العودة إلى بلدانهم الأوروبية التي أتوا منها، محتلين لأرض فلسطين، ناهيك عن أن الجنود لا يتعرضون فقط للقتل، بل إن الكثير منهم يعانون إصابات جسدية ونفسية تؤثر على حياتهم بالكامل، مثل فقدان الأطراف والبصر؛ مما يدمر مستقبلهم بشكل كامل، كما أن التكلفة الاقتصادية للحرب وطول مدتها تجعل استمرارها غير مجدٍ، فكل يوم من القتال يُنفق نحو نصف مليار شيكل (132.3 مليون دولار)، مما يثقل كاهل الاقتصاد «الإسرائيلي».
«حزب الله» يعلن انتصاره
بالرغم من اتفاق وقف إطلاق النار وابتعاد الحزب عن الحدود، أكد نعيم قاسم، الأمين العام لـ«حزب الله»، أن المقاومة انتصرت، وقال في خطاب له بعد وقف إطلاق النار: «قررت أن أعلن كنتيجة.. بشكل رسمي وواضح أننا أمام انتصار كبير يفوق الانتصار الذي حصل في تموز 2006م.
وأرجع نتنياهو أسباب وقف إطلاق النار إلى 3 أسباب؛ نقص الأسلحة، وإراحة القوات المنهكة على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، والضغوط الدولية التي تواجهها «إسرائيل».
في تقارير سابقة لصحيفة «واشنطن بوست»، تبين أن «إسرائيل» تعاني من نقص حاد في الأسلحة رغم أن الولايات المتحدة أغدقت عليها بـ18 مليار دولار من المساعدات العسكرية، إلا أن هذا ليس كافياً لسد احتياجات «إسرائيل» من الأسلحة لا سيما في ظل تمكن المقاومة في غزة من استهداف دباباتها وقصفها بالصواريخ واستهداف المقاومة اللبنانية لقلب «تل أبيب».
وأظهرت مؤخراً دراسة أمريكية أعدها برنامج تكاليف الحرب في جامعة براون، أوردها تقرير نشرته «أسوشييتد برس»، أن الولايات المتحدة أنفقت ما لا يقل عن 17.9 مليار دولار على المساعدات العسكرية لـ«إسرائيل» منذ بدء العدوان البربري على غزة، وكانت معظم الأسلحة الأمريكية التي جرى تسليمها عبارة عن ذخائر، من قذائف المدفعية إلى القنابل الخارقة للتحصينات التي تزن 2000 رطل، فضلاً عن القنابل الموجهة بدقة.
وأوضح التقرير أنه على عكس المساعدات العسكرية الأمريكية المعلنة والموثقة لأوكرانيا، فإنه من المستحيل الحصول على التفاصيل الدقيقة لما شحنته الولايات المتحدة إلى «إسرائيل» منذ السابع من أكتوبر 2023م.
وكشفت صحيفة «معاريف عن تفاصيل جديدة عن أزمة نقص الأسلحة والذخائر التي يعاني منها جيش الاحتلال بسبب العدوان المستمر منذ 14 شهراً على غزة ومع عدوانها منذ أكثر من شهرين على لبنان، كما سلطت تقارير لنفس الصحيفة عن تآكل مخزونات جيش الاحتلال من الطائرات المقاتلة والدبابات الحديثة من طراز «ميركافا 4» وناقلات الجند، بعد أن تم تدمير أو تعطيل جزء مهم منها بسبب صواريخ المقاومة؛ مما يتطلب تجديد مخزوناتها وحاجتها المتزايدة لقطع غيار، يأتي كل هذا ضمن حظر دول عديدة بيع أسلحة لـ«إسرائيل» وفرض العديد من الدول عقوبات على «تل أبيب».
وكان قرار الجنائية الدولية الذي يصِم نتنياهو، ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بمجرمي حرب بعد ارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، وإصدار مذكرتي اعتقال بحقهما من بين الضغوط الدولية التي صبت في صالح المقاومة ودفعت «إسرائيل» إلى إبرام هذا الاتفاق.
هدنة
لا بد من الانتباه إلى أن «إسرائيل» بحاجة إلى هدنة لاستعادة قواها بعد أن أنهكتها المقاومة في غزة ولبنان، وأنها بحاجة إلى إرضاء الداخل «الإسرائيلي»، كما أنها تستعد لدخول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، لاستئناف توريد الذخائر، وشراء أنظمة دفاع جديدة، ولا بد من معرفة أن عقيدة «إسرائيل» هي القتل وليس القتال، وأنها إذا رأت القوة فإنها لن تستمر في عدوانها وبغيها.
لقد نجحت المقاومة في لبنان في تركيع العدو، وسارعت الولايات المتحدة وفرنسا للتوسط لإنقاذ الكيان الصهيوني من السقوط، دون حدوث تغيير جوهري في معادلة الصراع بعد أن أصبحت الخسائر البشرية تفوق أي مكاسب محتملة، والآن يقف «حزب الله» أمام مفترق طرق، وهناك تساؤلات تطرح نفسها: هل تغيرت خطط «حزب الله» بعد الاتفاق الأخير؟ وماذا عن سياسة الإسناد لغزة؟ هل تترك غزة وحدها؟ هل ستظل دول الأمة متخاذلة عن دعم غزة؟