لا خلاف بأن الشرائع السماوية والقوانين الأرضية فَرّقت بين العاقل والمجنون والمعتوه.
والعاقل هو المدرك للأمور، والمميّز بين النافع والضارّ منها، والمجنون هو من انعدم تمييزه فلا يُعتد بأقواله وأعماله.
والمعتوه هو من ضعفت قواه العقلية فكان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير.
ولكل واحد من هؤلاء أحكام سماوية وأرضية تتعلّق بقدراته العقلية السليمة أو السقيمة أو الضعيفة.
ونحن هنا لا نريد الحديث عن الأشخاص الأذكياء جداً، وإنما كلامنا لعموم الناس العقلاء حتى تكون الفائدة أكبر وأَعمّ؛ لأن غالبية الذين يمتلكون قدرات عقلية نادرة مصابون بالغرور والتّكبّر الفكري ولا يستمعون إلا لمَنْ هم في طبقتهم، والإنسان الحكيم العاقل مهما كان نبوغه يفترض به أن يتفهم المجتمع الذي يعيش فيه ويتعرف على الواقع.
وتُسخّر الكيانات السياسية اليوم المئات من عملائها لتمرير مشاريعها وتلميع صورهم، وذلك عبر سياسة اختطاف العقول، وتنويمها وتخديرها، وهذه قضية خطيرة يفترض الانتباه إليها وعدم التهاون معها وذلك لا يكون إلا باليقظة الفكرية!
إن تلاعب الإعلام بالمصطلحات والصور وزوايا الأحداث واحدة من أهمّ أدوات اغتيال العقول، وهذه ليست سياسات عبثية كما يظن بعض المتابعين، بل هي سياسات دقيقة قائمة على دراسات ومناهج لتمرير مشاريع لأهداف سياسية وشخصية، وربما طائفية ومذهبية!
وأثبتت تجارب الشعوب وقراءة التاريخ الأصيل غير المزوَّر بأن الشعوب لا تَتَخلّف إلا من بوابات تخريب العقول وتخلّفها!
وهكذا مَن يريد أن يبني الدولة عليه أن يعتني بتعليم الناس، فهم الأدوات المتينة للبناء والعطاء، المتعلمون، هُم الأرض التي ستدرّ الخير على الوطن والمجتمع.
ومن هنا تأتي أهمّية رعاية العقول ومتابعة تغذيتها عبر متابعة ما ينشر في الإعلام الرسمي والشعبي (مواقع التواصل الاجتماعي)، وبهذه الرعاية يمكن صيانة الجبهة الداخلية للمجتمع التي لا تقل أهمية، إن لم تكن أهم، من الجبهة الخارجية وخصوصاً في أوقات السلم.
واليوم حينما نرى بعض الدول المتطوّرة نشعر بالألم لأننا لا نختلف عنهم من حيث العقل والذكاء، ولكن الذي يُميّزهم عنا هو تطوير العقول وتمييزها، وعملها لأجل خدمة الوطن والناس والسعي لإصلاح العقول وتحسين أدائها من الواجبات الضرورية على الدولة والمؤسسات المدنية وليس من الترف الإنساني.
ويتأثّر العقل بمحيطه والبيئة التي يترعرع فيها، والظروف السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية التي ينمو فيها، وربما تكون تلك الظروف عوامل هدم للإنسان، وقد تكون عوامل بناء، وهذه تختلف من شخص إلى آخر، وهنا يأتي دور الدولة والمؤسسات النقية في تنمية الإنسان لبناء الحاضر والمستقبل.
وتطوير العقول ليس بالضرورة الدخول في دورات لمعرفة كيفية اتخاذ القرارات الصحيحة في الظروف الاستثنائية، أو القدرة على التحكّم في التصرفات وغير ذلك من القضايا التي تُدَّرس اليوم، ولكن بيقظة العقول وتطويرها والعناية بالمدخلات التي تثقفها وتحميها.
وتطوير العقول يكون باليقظة، وعدم الاستسلام للكثير من القرارات أو الكلام الذي يصدر من جهات أثبتت التجارب أنها لا تحب الشعب، بل هي تسترزق باسم الشعب، وتسرق باسم القضية، وتنهب باسم الوطن، وربما تقتل باسم العمل والمستقبل.
ومثل هذه الكيانات الحزبية والشخصية يفترض التّنبّه لها وعدم الوقوع في حبائلها ومكائدها وخطّطها الشيطانية الخبيثة؛ لأننا لا يمكن أن نتوقّع من مثل هؤلاء أن يتحوّلوا إلى بناة وهم الذين أثبتت التجارب بأنهم مخرّبون، ولا إلى ناشرين للحب والسلام وهم الذين نشروا الكراهية والحروب في الأرجاء، وغير ذلك من المعاني المليئة بالشر والخراب والضياع!
ابنوا دولنا بالعقول السلمية، وعَمّروها بالإنسان قبل البنيان قبل أن نجد أنفسنا أمام بنايات شاهقة وخالية من العقول الصافية!
__________________
dr_jasemj67@