تمر الأمة الإسلامية كحضارة بمرحلة ركود فكري منذ زمن على مستويات عدة، ومنها اللغة التي انحدرت انحداراً كبيراً في ظل عصر التواصل الكوني المفتوح
أنا أتكلم فأنأ كائن إنساني.. واللغة هي الوجود نفسه
نحن محزونون لتراجع الشعور العام بالاعتزاز والفخر بهذه اللغة الشريفة
علماء المجمع هم أكثر الناس غيرة على العربية وهم المحافظون على سلامتها
اغتراب الشباب عن لغته هو المعضلة الكبرى والعقبة الكؤود
أجرى الحوار من القاهرة: محسن عبدالفتاح
تمر الأمة الإسلامية كحضارة بمرحلة ركود فكري منذ زمن على مستويات عدة، ومنها اللغة التي انحدرت انحداراً كبيراً في ظل عصر التواصل الكوني المفتوح الذي تسبب في ضياع الهوية نتيجة ضعف المؤسسات التي تقوم على حفظها، واللغة العربية – مثل كل لغات الدنيا – ليست أصواتاً ورموزاً تخضع لقيود وشروط، وكذلك ليست محض دلالات وتراكيب، بل هي تاريخ وثقافة، وكذلك دين وحضارة، اللغة بمثابة وعاء يحمل هذا كله، ينقله عبر الأزمنة المطوية، اللغة سجل يكشف مخبوء النفس البشرية، ويزيل الأغطية عن المكتوب بلب العقل فيصير المستور بياناً يهدي للخير والحق.
عن اللغة العربية وأهميتها والأخطار المحدقة بها، وجهود علماء مجمع الخالدين للحفاظ على سلامتها، واستعادة مكانتها في ظل ما يسمى بعصر العولمة، حدثنا رئيس المجمع الأستاذ د. حسن الشافعي عقب انعقاد مؤتمره السنوي في دورته الثمانين والتي افتتحت في الرابع والعشرين من شهر مارس الماضي تحت عنوان التعريب.
أهميه اللغة العربية
عندما سألناه رد قائلاً: يقول الله في كتابه الكريم: (الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الْإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ {4}) (الرحمن)، في البدء كانت الكلمة والكلمة هي عنوان الوجود الإنساني، بما تتضمنه من حقائق الوعي والفكر، والذاكرة والتواصل والثقة والأمان.. يقول سبحانه وتعالى: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً {109}) (الكهف)، أنا أتكلم فأنا كائن إنساني، فاللغة هي الوجود نفسه.. إذن أنا أتكلم العربية، وأحسنها شعوراً وفكراً ولفظاً؛ فأنا إنسان عربي كما يقول أفصح العرب.. وبالرغم من ذالك فنحن حزانا لتراجع الشعور العام بالاعتزاز والفخر بهذه اللغة الشريفة لغة القراّن الكريم والتراث الحضاري وهوية أمتنا العربية، فلا القادة المسؤولون يرعون حرمة اللغة القومية وكرامتها كما كان أسلافهم، ولا الكتاب والإعلاميون يراعون ويلتزمون بقواعد اللغة وأدبها، ولا الشباب المفتون بثورة العصر التقنية والمعرفية ملم بلغته بالقدر الكافي الذي يتيح له أن يشارك في مسيرة أمته ويؤثر في الحضارة الإنسانية العالمية.. إن هوان اللغة العربية في عقر دارها على مختلف الأصعدة من أبنائها والقائمين عليها لهو الداء العياء الذي ينخر في وجودنا القومي، ويهدد وجودنا الإنساني نفسه.
ثم انتقلت “المجتمع” لتسأل د. حسن الشافعي عن جهود المجمع لمواجهة هذه الأخطار فأجاب قائلاً: يقوم مجمع الخالدين منذ ثمانين عاماً من خلال علمائه.. وهم أكثر الناس غيرة على العربية – برعاية اللغة والمحافظة على سلامتها، وتيسير قواعدها، وتوثيق رابطتها بالشبيبة العربية من جهة.. وبالفكر العالمي والحياة الحضارية من جهة أخرى.. يحدونا إصرار وعزيمة على أداء هذه الأمانات أياً كانت الإمكانات، لا نشكو بل نضاعف العمل مهما كانت الأحوال، ومن حين لآخر نتلقى الدعم والتقدير من إخوة لنا في مشارق الوطن ومغاربه، مقويين من عزيمتنا، مثلجين لصدورنا.. فها هو الجهد الصادق يؤتى ثماره ويجد صدى طيباً في قلوب المحبين للغتنا الجميلة.
الشباب واللغة الأم
وحول هذا العنوان تحدث الشافعي بمرارة قائلاً: “هذه هي المعضلة الكبرى والعقبة الكأداء، فشبابنا يعيش اليوم في عصر يطلق عليه عصر العولمة وثورة المعرفة، وطفرة أو قفزة التقنية، هذا الأمر انعكس سلباً على حال التعليم خاصة التعليم باللغة العربية وبها، وأضعف صلة أبنائنا بلسانهم الشريف، فهم بين المدرسة الأجنبية، والمربية الأجنبية، واللغة العربية المشوهة كتابة أو نطقاً، مقروءة أو مسموعة إن وجدت بعد أن سبقتها اللغات الأجنبية في المكانة والتمكن، من هنا فقد جعلنا عنوان ملتقانا السنوي هذا العام “التعريب”، وهو يشمل معنيين؛ الأول: التعريب بمعناه الفني اللغوي، وأعني به إثراء اللغة وتواصلها مع اللغات الأخرى، والآخر: التعريب بمعناه الحضاري العام، وأقصد به بسط مظلة الفكر والإبداع العربي في ميادين الحياة المختلفة من علوم فضاء إلكتروني، وعلوم الثورة المعرفية والرقمية الراهنة، فتلك تحديات حضارية للتعريب اللغوي ركن مهم فيها.. من ترجمة وتعريب، وتوليد ومشاركة في حقائق المصطلحات العربية المعبرة عن لغة العصر الذي ينغمس فيه شباب الأمة ويتنفسه ليل نهار.
إن العمل في مفهوم هذه المؤسسة جهد صادق، وخدمة متواصلة لا مجرد عاطفة جياشة وحب صافٍ، وتاريخ أي ثقافة أو لغة هو سلسلة من التحديات والاستجابات، ولن يكون عهدنا عهد تفريط أو استسلام إزاء التحديات الجسام، بل سنمضي معاً على الطريق إلى تحقيق الأهداف العظام، وإذا صح العزم وضح السبيل.