الهوية روح الجسد تغيب عنه، فيهبط سلوكياً وحضارياً، ثم يشتاق إليها ويحتاجها، ولا يستطيع العيش بدونها
الهوية هي أصل الشيء وحقيقته، وروح الإنسان وسر الحياة فيه، وسبب وجوده، والسمت المميز له عن غيره، ووثيقة الإرث الحضاري له، والطاقة المحركة، والأمل في مستقبل أفضل، كما هي معيار التوجه السياسي وصنع القرار فيه، وهوية المجتمع هي سر قوته وسبب بقائه، وسر نموه وتطوره، وهي التي تحدد مساراته واتجاهاته إلى العالم من حوله، كما هي أساس وحدته واحتشاده، وهي المحفز الحقيقي للفعل والبذل والتنافس والإنجاز الحضاري.
الهوية قصة حب خالدة بين الإنسان كفرد ومجتمع وأمة وذاته الحقيقية التي تتكامل بين ماضٍ طويل وحاضر حي ومستقبل متوقع، الهوية كائن حي يأكل ويشرب وينمو، ويقوى ويضعف، يتحرك ويسكن، يتفاعل مع محيطه المادي والمعنوي ويتأثر ويؤثر فيه.
الهوية روح الجسد تغيب عنه، فيهبط سلوكياً وحضارياً، ثم يشتاق إليها ويحتاجها، ولا يستطيع العيش بدونها؛ فيعود إليها ليحسِّن من سلوكه وأدائه وإنجازه؛ ليسترد موقعه ومكانته الحضارية بين الأمم؛ فتتحرك هويته لتلتقيه في منتصف الطريق، اشتاقا لبعضهما، ولكنها كانت تنتظره ليُقبل فقط عليها.
الهوية روح تغيب ولكنها لا تموت أبداً، تضمر حيناً، ولكنها تعود إلى جسد المواطن والمؤسسة والمجتمع؛ فتُحييه من جديد، وتمنحه القوة والقدرة على الفعل والإنجاز؛ فتقوى به، وتمتد وتنتشر وتفتح لها فروعاً ممتدة في مجتمعات جديدة، بين المواطن وهويته، بين المدرسة وهويتها، بين المؤسسة وهويتها، بين المجتمع والدولة وهويتها، تمنح الفرد والمؤسسة والمجتمع أحاسيس ومعاني وطاقات الحياة والوجود والأمل والرغبة في الإنجاز وطاقة وقوة الحركة والفعل.
الآثار المادية الحقيقية الملموسة للهوية في مجالات حياة المجتمع:
1- الهوية تنتج نمط الحياة الخاص المميز للمجتمع المعتز بذاته بين الأمم.
2- الهوية تحسن السلوك المجتمعي، وتقلل المشكلات وتخفض معدلات الجريمة.
3- الهوية توحد المجتمع وتهبط بمعدلات الصراع البيني.
4- الهوية ترفع مستوى الانضباط المجتمعي بالقيم والأخلاق والقوانين ومعايير الأداء المهني.
5- الهوية ترفع مستويات الأداء والإنجاز والناتج المحلي والدخل القومي.
وتتكون هوية المجتمع من جزء صلب وآخر مرن، والجزء الصلب بمعنى البناء التأسيسي الثابت والذي يتكون من العقيدة واللغة والقيم والتراث ورؤية ورسالة ومهمة هذا المجتمع في الحاضر الذي يعيشه والمستقبل الذي يسعى إليه، والجزء المرن المتمم لبناء هوية المجتمع هو الأعراف والتقاليد المجتمعية الخاصة، والفلكلور الشعبي الخاص، وطبيعة جغرافيا المجتمع التي تفرض نفسها على السمت الخاص لأبناء المجتمع، وترسم نمط حياتهم الخاص المميز لهم، كل هذه المكونات تتفاعل فيما بينها لتشكل الكينونة الخاصة للمجتمع، والتي تعني وجوده وكينونته في هذا العالم الذي يمتلك فيه كل مجتمع هويته الخاصة به، التي يعتز بالانتماء إليها، ويسعى إلى المحافظة عليها، بل وفتح آفاق جديدة لها لدى المجتمعات الأخرى؛ ليؤكد وجوده، ويعظِّم من مكاسبه المادية والمعنوية، ويحفظ لنفسه فرصته الدائمة في النمو والتقدم والاستقرار والرفاهية.
ويرسم علم الاجتماع السياسي الحديث أربعة أدوار وظيفية للهوية في كل مجتمع من المجتمعات؛ هي على الترتيب والتوالي الضبط والتحسين المستمر لجودة السلوك المجتمعي، وتوفير قاعدة من المفاهيم والقيم المشتركة، التي تستثمر تنوعه وتعزز وحدته وتكامله، وتحشدهم نحو غاية وبوصلة وطنية واحدة؛ لتحقيق المصالح الوطنية العليا للمجتمع، والأهم من ذلك كله هو أن الهوية تمثل المحفز الحضاري الأكثر فاعلية في نفوس أبنائه، ودفعهم للعمل والتضحية والإنجاز؛ من أجل إنجاز إسهامات حضارية جديدة تساهم في الرقي الحضاري الإنساني بشكل عام، وتحسِّن من مستوى جودة حياة المجتمع ومكانته بين باقي الأمم الإنسانية.
ماذا يعني قوة وضعف الهوية؟
كلما تعزَّز فهم وبناء وتمكين المكونات الخمسة الأساسية للهوية في نفوس المجتمع (المعتقدات والقيم واللغة والتراث والمهمة والرسالة الحضارية)؛ تحسّن السلوك والأداء والإنجاز المجتمعي، والعكس صحيح؛ كلما ضعفت هذه المكونات ضعف السلوك والأداء والفعل والإنجاز الحضاري للمجتمع.
وأكثر ما يبرهن على العلاقة الطردية بين قوة الهوية وقوة الإنتاج وارتفاع معدلات الاقتصاد والتنمية بشكل عام هي التجربة الماليزية، والتي بدأت مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عندما تولى «محاضير محمد» رئاسة الوزراء في عام 1981م، وبدأ مسيرة النهضة الماليزية برسم خطة موحَّدة للهوية الماليزية حددت المعالم الأساسية للمجتمع الماليزي من الاعتراف الكامل بكافة الهويات الأديان والقوميات الخاصة داخل المجتمع الماليزي، وجمعها في وعاء وطني ماليزي كبير هو الهوية الوطنية الواحدة للشعب الماليزي، عبر منظومة عبقرية من قيم الاحترام المتبادل والتعاون والتكامل والانضباط، واحترام العلم والتخصص والاحتراف المهني والعمل والإنجاز، متوجة بقيم الاعتزاز بالذات والتنافس الإيجابي لإعلاء قيمة ومكانة ماليزيا في المجتمع العالمي، وفعلاً تحققت المعجزة، وترجمت هذه المنظومة القيمية إلى سلوك وأداء حقيقي على أرض الواقع، حيث تحسن السلوك المجتمعي بشكل كبير، وخفت حدة الصراع البيني حتى انتهت تماماً، وتفرغ الشعب للعمل والإنجاز؛ فنما الناتج المحلي وارتفع الدخل القومي ودخل الفرد من 600 رنجت عام 1980م إلى 10 آلاف رنجت عام 2001م، وارتفعت صادرات ماليزيا من 5 مليارات دولار سنوياً عام 1980م إلى 96 مليار دولار عام 2002م.