تأسس الموقف المصري تجاه ليبيا على بناء عقات وثيقة مع مكونات “عملية الكرامة” باعتبارها عملية عسكرية تهدف لبناء نظام سياسي يقوم على محورية دور “الجيش الوطني الليبي” في إنجاز مهام المرحلة الانتقالية، واعتمد الموقف المصري على أن التدخل العسكري الخارجي ه
د.خيري عمر
تأسس الموقف المصري تجاه ليبيا على بناء عقات وثيقة مع مكونات “عملية الكرامة” باعتبارها عملية عسكرية تهدف لبناء نظام سياسي يقوم على محورية دور “الجيش الوطني الليبي” في إنجاز مهام المرحلة الانتقالية، واعتمد الموقف المصري على أن التدخل العسكري الخارجي هو خطوة لبناء الجيش الليبي ومكافحة الإرهاب، لكنه رغم طرح هذذه السياسة صارت فرص التدخل العسكري أقل الحلول قابلية في تناول الأزمة السياسية في ليبيا، وخصوصصاً بعد تأكيد قرار مجلس الأمن 2174 على منع التدخل العسكري بشكل يفرض قيوداً وتحديات على السياسة المصرية، يمكن أن تدفع باتجاه تعديل سياستها الخارجية تجاه ليبيا.
اتجاهات السياسة المصرية
وكانت هناك محاولات من مصر لتفضيل خيار التدخل العسكري، ودعمت مواقفها من خلال اجتماعات دول الجوار في “تونس” في 25 يوليو والعمل على وضع خطة مشتركة لوقف مسار عملية “فجر ليبيا ” باعتبارها تهديدا للأمن الإقليمي، وهنا تبدو ضرورة الاقتراب من العوامل والمحددات التي تؤثر في السياسة المصرية تجاه التدخل أو المعالجة السياسية السلمية للأزمة.
وقد ظلتالفكرة المحورية في السياسة المصرية تكمن في تكوين نظام سياسي في ليبيا يتماثل في خصائصه مع النظام المصري بعد يوليو 2013، وهذا الجانب شكل محوراً استراتيجيا في السياسة الخارجية، وانعكس بوضوح في التصريحات الرسمية والحملات الإعلامية، وقد عبرت مصر عن سياستها في الكثير من المواقف، فخلال معارك طرابلس بين قوات عملية “فجر ليبيا” وبين لواء حرس الحدود (القعقاع) وكتائب أخرى، انحازت المواقف المصرية بشكل واضح للخيارات المؤيدة لعملية “الكرامة”، حيث اعتبرتها آلية عسكرية لمواجهة الحركات الإرهابية، وقد زاد التضامن المصري مع “حفتر” بعد الإعلان عن تشكيل مجلس النواب في “طبرق” باعتباره يمثل إطارا شرعيا، كما دشنت مصر حملة إععلامية وسياسية ضد “غرفة ثوار ليبيا” والحركات الثورية في شرق ليبيا.
وفي كثير من الملتقيات الدولية عبرت مصر عن رؤيتها، بأن حل الأزمة في ليبيا يكون عبر التدخل العسكري وليس الحوار السياسي، وأعلنت استعدادها للتدخل في حالة توافر غطاء دولي، أو من خلال تفعيل العلاقات الثنائية من خلال “مجلس النواب (طبرق)” والحكومة القريبة منه، حيث بدأ التعاون الوثيق بينهما بداية من التعزيز المتبادل لطلب التدخل الدولي والشروع في عقد اتفاقية للدفاع المشترك تمنح مصر صلاحيات واسعة على الأراضي الليبيبة.
وبجانب الإطار الإقليمي والدولي للسياسة المصرية، فإنها سعت في مسارات موازية لوضع إطار دستوري للعلاقة مع ليبيا من خلال اتفاقات عسكرية تتيح لها التدخل لحماية المؤسسات الليبية، وفي هذا السياق ثار جدل حول توقيع اتفاقية عسكرية للدفاع المشترك، لكنه لم تتضح كيفية دخولها حيز النفاذ في ظل النزاعات الدسترية والسياسية في ليبيا، وهناك تفسير يذهب إلى أن الاتفاقية هي للتغلب على معوقات التدخل الدولي، لكنه من الوجهة القانونية، يعد قرار مجلس الأمن ( 2174) هو السقف القانوني للتصرفات الدولية تجاه ليبيا، وبالتالي، فإن وجود اتفاقات أخرى ( بفرض التصديق عليها) لا يمكنها تجاوز “الشرعية الدولية”.
وحاولت مصر توظيف التعاون مع فرنسا والإمارات في تكوين إطار دولي يعزز مسار التدخل العسكري في ليبيا، وكانت ذروة هذا التوجه في تصريحات وزير الدفاع الفرنسي والتي دعا فيها لمواجهة خطر الإرهاب في الجنوب الليبي ومنعه من الانتشار في لشمال البلاد، لكن الوزير الفرنسي لم يلق إسنادا من الرئيس ( هولاند) وتحت تأثير رفع المتظاهرين لصوره وتوجيه انتقادات مباشرة لسياسة فرنسا حاول تفسير موقفه بأنه لم يدع للتدخل ولكنه حذر من وجود الإرهاب في شمال ليبيا.
وقد استمر الموقف المصري في التبلور على مستويين؛ المستوى الأول، تقديم مساعدات غير مباشرة لفريق عملية الكرامة وتسهيل اجتماعاتها في القاهرة وتوفير الإسناد السياسي لمجلس النواب (طبرق)، وفي هذه الفترة أثيرت اتهامات لضلوع مصر في شن غارات جوية على طرابلس، ورغم نفي مصر هناك قناعات لدى الليبيين بوجود محور مشترك يضم مصر والإمارات وفرنسا يهدف لتقويض ثورة فبراير.
أما المستوى الثاني، فهو ما يتعلق بمساعدة الحكومة الليبية ( عبد الله الثني) في الملتقيات الدولية، وهناك العديد من مسارات الدعم السياسي دولياً، كان أكثرها بروزاً في بلورة المبادرة الإقليمية وطرها كوثيقة أمام مجلس الأمن ( 27 أغسطس)، وأخيرا، حرصت مصر على وضع تصورها لملامح الحوار الوطني في ليبيا، حيث اشارت تصريات وازرة الخاريجة في ملتقى أسبانيا بشأن ليبيا ( 16 – 17 سبتمبر 2014) بأن الحوار لا يشمل الجماعات المسلحة الإرهابية، وتكشف هذه الصياغات عن الرغبة في توسيع خيارات مصر ما بين التدخل المباشر وبين وضع إطار للحوار السياسي يضمن استبعاد القوى التي تعارض الدور المصري في ليبيا.
القبول الدولي بالحوار
ورغم استمرارية الموقف المصري نحو تفضيل التدخل العسكري، كان السياق الدولي والإقليمي يتبلور في اتجاه آخر، حيث يعمل بشكل أساس على احتواء الصراع المسلح داخل نطاق الأراضي الليبيبة والعمل على توفير مناخ سياسي لتسوية الأزمة السياسية.
وفي أواخر أغسطس 2014 واجهت مصر اتهامات باختراق سيادة ليبيا ومهاجمة مناطق في طرابلس، وقد جاءت الاتهامات من جانب “قوات فجر ليبيا” والولايات المتحدة كما أصدر الاتحاد اوربي تحذيراً من التدخل الإقليمي في ليبيا، وتفي هذه المواقف تعقيدات أمام السياسة المصرية في ليبيا، وتأتي هذه القيود من وجهة أن منظور البلدان الغربية صار يميل إلى أن التدخل الخارجي يزيد الصراع المسلح ويطيح بالفرص الأخيرة للعملية السياسية، ولذلك صارت المواقف من التدخل الخارجي ترتبط بأبعاد جيو ـ استراتيجية ، وليس هناك أطراف أخرى ( غير مصر) تقبل بالتدخل الدولي في ليبيا، كما أن تفكك الكيانات العسكرية لعملية “الكرامة” مصر في ليبيا؛ سواء قي شرق ليبيا أو بانهيارها في “طرابلس”، سوف يزيد من الأعباء على السياسة الخارجية المصرية.
ورغم تعقيدات المشهد الليبي، استقرت القرارات الدولية على أولوية الحلول السلمية، فقد اشار تقرير بعثة الأمم المتحدة لوجود إمكانية لمخرج سلمي للأزمة السياسية عبر إطار الحوار الوطني الذي يشارك فيه كل الأطراف بدون استثناء، وقد اعتمدت جلسة مجلس الأمن (15 سبتمبر 2014) على تقرير مبعوث الأمين العام كأساس للتواصل مع أطراف الأزمة السياسية وأيضا للمناقشات الدولية حول ليبيا، بيث يتكون إطار متماثل لتخفيف حدة الأزمة الليبية.
وتعد سياسة عدم التدخل هي استمرار للمواقف الأمريكية والأوربية من الأزمة السياسية في ليبيا، حيث تشير اليانات الصادرة عن دول شركاء ليبيا لدعم المسار السياسي دون توجيه اتهامات مسبقة لأي طرف، ولعل الجوانب المشتركة لهذه المواقف تمثلت في استيعاب كل الكيانات الليبية في مسار الحوار السياسي دون التركيز علىالمسار العسكري كحل وحيد للأزمة كريق لتوسيع الخيارات السيساسية نظرا لتعقد ابعاد الصراع، وفي هذا السياق تبلورت فكرة عدم التدخل وبشكل خاص لدى الولايات المتحدة، حيث أن دخول قوات دولية في ظل غياب المؤسسات والحد الأدنى من السلطة سوف يفاقم الأزمة ويعزز الصراع الاجتماعي، فرغم وجود مجلس النواب كسلطة تشريعية لكنه يعاني من الانقسامات ويصعب الاعتماد عليه كقاطرة لإدارة الشئون السياسية والتصدي لمسألة الحوار السياسي.
القيود على السياسة المصرية
وفي هذا السياق تواجه السياسة المصرية تجاه ليبيا عدداً من المعوقات التي يحتمل أن تدفع باتجاه تغييرها أو حدوث تعديلات عليها؛
فعلى هامش اجتماعات الجمعية الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقعت مصر بجانب أحد عشر دولة أخرى على بيان مشترك في 23 سبتمبر 2014 برعاية الاتحاد الأوربي ، ويدعو البيان للتعامل مع الأزمة في ليبيا وفق مبدأ الحل السياسي عبر الحوار الوظني ووقف إطلاق النار ، وتشكل هذه الصيغة الإطار الواسع للتناول الدولي للأوضاع في ليبيا، حيث أنه يشمل عدة دول تتخذ مواقف متناقضة ومتعارضة كالإمارات ومصر وفرنسا من جهة، زالجزائر وإيطاليا وتركيا وألمانيا وقطر من جهة أخرى، وهو بذلك يشكل الإطار الدولي الذي يشمل كل وجهات النظر والمصالح لمتعددة تجاه منطقة البحر المتوسط..ويتضافر مقترح بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا مع البيان المشترك، حيث وضع جدولاً للحوار الوطني يتضمن تصحي الوضع الدستوري لمجلس النواب باعتباره المشكلة المحورية في الخلاف بين الأطراف الليبية.
ووفق هذه التفاعلات، يشكل البيان مرحلة متقدمة من تنفيذ قرار مجلس الأمن (2174)، فبجانب تأكيده على عدم التخدل العسكري، فإن توقيع مصر والإمارات والسعودية يعتبر تأكيداً لالتزامهم بالقرارات الدولية التي تقضي بمنع دخول السلاح عبر الحدود الليبية، ولعل الصيغة الدولية التي صدر بها البيان المشترك تكشف عن الانتقال من الإطار الإقليمي وصيغة دول الجوار لشكل آخر من الناقشات والمفاوضات حول ليبيا يكون من شأنها كبح التصرفات الفردية تجاه المسائل الأوضاع المعقدة في ليبيا، وهي تعني بالأساس فرض قيود واسعة على الدعم العسكري لأي من الأطراف الليبية، ويتضافر هذا التوجه الدولي مع رؤية بعض دول الجوار؛ وخصوصاً الجزائر والسودان وتونس التي رفضت، بشكل واضح، التدخل العسكري في ليبيا.
وعلى المستوى الإقليمي، يتضح أنه منذ انعقاد لجنة دول جوار ليبيا في 25 يوليو 2014 بتونس، لم تكن هناك اتجاهات حاسمة في تأييد التدخل الدولي، وفي بيانها في 25 أغسطس 2014 صارت تميل لأهمية مراعاة الجوانب السياسية في حل الأزمة الليبية بدون التدخل العسكري الخارجي، ولكن صدور بيان مشترك بين خارجية مصر وليبيا والذي يركز على النزع السريع لسلاح ” الميلشيات المسلحة يعكس اختلاف الموقف المصري عن مواقف دول الجوار الآخرين، وقد اتضح هذا الاختلاف في التضامن المصري مع حكومة “عبد الله الثني” وتعدد الاجتماعات المشتركة والإعلان عن خطط لتكوين وتدريب الجيش الليبي، لكن غالبية مواقف دول الجوار تشير لرفض التدخل الدولي والعمل على مساعدة الليبين في الوصول لحل سياسي، وكانت الجزائر صريحة في رفض التدخل الإقليمي أو الدولي باعتباره تهديداً لأمن دول الجوار.
وبالإضافة للعوامل الدولية والإقليمية، حققت عمية فجر ليبيا إنجازات سيساسية، ليس فقط بحسم الصراع العسكري في المنطقة الغربية وسيطرة الثوار على العديد من المناطق الأخرى، ولكن في قدرتها على تطوير الإطار السياسي بتشكيل حكومة الانقاذ وتضامن البنك المركزي معها ووجود اعتراف ضمني من بعض الدول، وذلك مقارنة باندلاع الصراعات داخل مجلس النواب وتأخره في تشكيل الحكومة وانحسار سيطرته على الأراضي الليبية، وبها المعني ، يفقد حلفاء مصر الأرضية السياسية والعسكرية التي تساعد في ثبات مطالبهم.
ومع انتشار التصريحات المصرية بدعم مجلس النواب (طبرق) والقرارات الصادرة عنه، تتجه مواقف الرأي العام وعملية فجر ليبيا لاعتبار هذه المواقف عدائية وتدخلية، وبرزت تصريحات لضرورة إجراء تحقيق في الهجمات الجوية على طرابلس، وقد لقي التناول المصري للأزمة في ليبيا لبروز توجهات سلبية تجاه الحكومة المصرية، ورغم تجنب حكومة الانقاذ ( عمر الحاسي) التعليق على السياسة المصرية، يبدو ثمة اتجاه لدى شرائح اجتماعية للمطالبة بإعادة النظر في العلاقات الثنائية.
لعل المعضلة التي تواجه السياسة المصرية تجاه ليبيا تتمثل في أنها اعتبرت الحسم العسكري بمساعدة خارجية (تدخل دولي) حلاً وحيداً، فيما أن كل المسارات الأخرى؛ دولياً وإقليمياً وحتى داخل ليبيا سمت برفض التدخل العسكري، وهنا تبدو فرص مصر محدودة في تبني مواقف مختلفة عن إطار الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي والبيانات الصادرة بخصوص البدء في الحوار الوطني ومناقشة الوضع الدستوري لمجلس النواب، وهي سياسات سوف تؤدي لنتائج يكون من بينها مراجعة العلاقات الليبية – المصرية.