“مليشيات بدر”.. إنه العنوان البارز للدولة العراقية العاجزة والمضطربة، وعلامة مضيئة على الرجوع لما قبل الدولة الموحدة، والشعب الواحد والمصير المشترك، وهي التجسيد الفعلي لضراوة الحرب الأهلية وفتنها الطائفية، وهي كذلك فاعل رئيس في مسار تفكيك الدولة العر
“مليشيات بدر”.. إنه العنوان البارز للدولة العراقية العاجزة والمضطربة، وعلامة مضيئة على الرجوع لما قبل الدولة الموحدة، والشعب الواحد والمصير المشترك، وهي التجسيد الفعلي لضراوة الحرب الأهلية وفتنها الطائفية، وهي كذلك فاعل رئيس في مسار تفكيك الدولة العراقية، وربطها بالمصالح الإستراتيجية الإيرانية التي بدأ مفعولها يظهر عملياً منذ الغزو الأمريكي عام 2003م.
وبحسب تقرير لصحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، فإن هذه المنظمة لم تعد مجرد كيان عسكري عادي يخضع لقانون الدولة ومندرج ضمن مؤسساتها، بل يمكن القول: إنها “جيش” طائفي منظم، إدارياً وأيديولوجياً، وهو يستعمل القوة المسلحة المصحوبة بالحشد والتعبئة الدينية لتحقيق التفكيك المطلوب للعراق، وإعادة تركيب المفكك ضمن الدائرة المذهبية والإستراتيجية الشيعية الإقليمية ونظرتها للشرق الأوسط الجديد.
أصول المنظمة:
وتعود أصول منظمة “بدر” الشيعية إلى بداية الثمانينيات من القرن العشرين، حيث أسسها محمد باقر الحكيم، وساعده في بناء وتسيير التنظيم أحد رجالات النظام الإيراني المعتبرين وهو محمود الهاشمي، الذي يشغل حالياً عضوية مجلس القضاء بإيران.
وتضم “بدر” في صفوفها ضباطاً سابقين من الجيش العراقي، كما تتكون من سياسيين معارضين للنظام البعثي لـ”صدام حسين”، وشباب مسيَّس يتبنى الأيديولوجية الطائفية؛ وهذا المنطلق جعل منها تنظيماً مزدوج التكوين والولاء العقدي، فهي من جهة إيرانية الولادة وعراقية العناصر، ومن جهة أخرى تعتبر منظمة عسكرية تمارس السياسة؛ مما يجعل من العنف السياسي سلوكاً ملازماً للبدريين قبل وبعد احتلال الولاية المتحدة الأمريكية للعراق.
كانت الرهانات والحسابات الإقليمية وراء إنشاء “بدر” باعتبارها فيلقاً عسكرياً؛ لذلك سهَّل عليها البلد المحتضن إيجاد إمكانيات مهمة على مستويي التنظيم الإداري السياسي والتدريب العسكري؛ فقد كان التنظيم يدور ضمن رؤية الحرس الثوري الإيراني التي تتطور بتطور الوضع الإقليمي والدولي؛ لذا انتقلت الإستراتيجية الإيرانية، منذ حرب الخليج الثانية، من تحدي الصدام المباشر مع العراق، ومحاصرة منظمة “مجاهدي خلق”، إلى بناء نفوذ سياسي وعسكري داخل العراق نفسه.
ومن داخل هذه الرؤية تحركت “بدر” باعتبارها مليشيات مسلحة، لممارسة دورها الطلائعي الحساس في غزو العراق، سواء بتحركاتها ذات الصلة بالولاية المتحدة وبريطانيا، عبر عقد مؤتمرات دولية تدعو للغزو والاحتلال؛ أو بالداخل العراقي، بتعزيز وتنظيم صفوفها، وتعبئتهم على المواجهة المسلحة للنظام العراقي البعثي.
وكانت هذه المليشيات الشيعية تعتبر الاحتلال الأمريكي للعراق “فرصة ذهبية” من الناحية العسكرية والسياسية لإعادة ترتيب الدولة، وربط العراق مذهبياً بالجمهورية الإيرانية.
ورغم بعض الخلافات الموجودة بين بعض مؤسسيها السياسيين حول درجة الاستقلالية وكيفية تحقيقها في ظل الارتباط بولاية الفقيه؛ فإن التكوين العسكري لقيادة “بدر” جعل ولاءها تاريخياً وإلى اليوم مرتبطاً بالحرس الثوري والمرشد الأعلى “علي خامنئي”، وعلى هذا الأساس تجهر المنظمة بأنها “تجاهد” في العراق وسورية بمبررات دينية محضة، مرجعها المرشد الأعلى بإيران، والمرجع الديني الشيعي علي السيستاني صاحب فتوى “الجهاد الكفائي” لعام 2014م.
مقاتلو “بدر”
وتشير أغلب التقارير إلى أن عدد مقاتلي مليشيات “بدر” يبلغ حاليا 100 ألف عسكري، يزاولون مهامهم القتالية بقيادة رئيسها هادي العامري، وزير النقل السابق، وقد استطاع العامري المتزوج من إيرانية، والمجنس بجنسيتها، الرجوع إلى الأضواء بعد صراع مع آل الحكيم ومناصريهم.
وكان محمد باقر الحكيم قد قرر عقب احتلال العراق تحويل “بدر” إلى منظمة سياسية وحل جناحها العسكري، إلا أن اغتياله في أغسطس 2003م حال دون ذلك، كما أن خضوع المنظمة لقانون الحاكم الأمريكي بول بريمر الخاص بدمج المليشيات، قلص مؤقتاً من دور العامري والدور الإستراتيجي الإقليمي لمليشيات “بدر”.
فرغم التحفظات التي عبر عنها كل من قائد المليشيات الحالي هادي العامري، والمستشار السياسي لمحمد باقر الحكيم الشيخ همام حمودي، وعالم الدين جلال الدين الصغير (صاحب نظرية القطار الشيعي الصاعد)، فقد مارست ثقافة العوائل الدينية والسياسية دوراً بارزاً في تولية عبدالعزيز الحكيم وراثة أبيه على رأس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، بينما عادت رئاسة منظمة “بدر” وهي الجناح العسكري للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي لهادي العامري.
تحالفات سياسية:
اختار المجلس منذ بداية احتلال العراق 2003م الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكان عبدالعزيز الحكيم عضواً بمجلس “بول بريمر”، الحاكم الذي عينته الولايات المتحدة للعراق، كما دخل في تحالفات سياسية تفيد برغبة ظاهرة للحكيم في إيجاد نوع من الاستقلالية عن كل من أمريكا وإيران في الوقت نفسه؛ لذلك سعى منذ عام 2009م لتحالف سياسي مع كتلة شيعية تضم التيار الصدري، والدخول في منافسة مع رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي وحلفائه، وفي الوقت نفسه، إبداء نية حسنة بإمكانية التعاون مع كتلة “العراقية” التي تزعمها إياد علاوي لتنافس على منصب رئاسة الوزراء في الانتخابات التشريعية لسنة 2010م.
وفي الوقت الذي أبدى فيه الحكيم هذا التوجه الانتخابي والسياسي المرن، عمل هادي العامري زعيم “بدر” على خلق تحالف يؤكد طبيعة عقيدة تنظيمه السياسية، ودوره الإستراتيجي، المرتبط بإيران، فدعم المالكي في ترشحه لولاية ثانية، فنشب صراع جديد بين المجلس والجناح العسكري، أدى لتوسيع رقعة الخلافات والخيارات الإستراتيجية بينهما، الشيء الذي انعكس على طبيعة التعبئة والتحريض التي أدت لإبعاد المجلس الأعلى الإسلامي العراقي من التشكيل الوزاري، بينما أسندت وزارة النقل لغريم الحكيم الجديد هادي العماري.
ومع استمرار الخلافات بين الجناحين السياسي والعسكري، أعلن الطرفان الفراق التام في مارس عام 2012م.
جرائم ضد السُّنة:
والحقيقة أنه من الناحية العملية، استطاعت مليشيات “بدر” منذ عام 2005م استرجاع مكانتها كرأس الحربة في مشهد العنف الدموي الطائفي بالعراق؛ كما ظهرت باعتبارها قوة لها رصيد عسكري يمكن الاعتماد عليه من جانب كثير من الشيعة الطائفيين من جهة، وكذلك من قبل إيران في سياستها داخل العراق.
ولأن هذه الدولة العراقية في حقيقة الأمر تتأثر بالمليشيات و”بدر” واحدة منها، فإن العامري تحول مع الصراع الدموي الطائفي بين السُّنة والشيعة لبطل قومي شيعي، كما أن المالكي وإيران جددا وكثفا من دعمهما لمليشيات “بدر” التي تحولت إلى “جيش” يجري تجهيزه لخوض المعارك بدلاً من الدولة، خاصة تلك المتعلقة بتصفية أهل السُّنة وتهجيرهم؛ مما أدى لارتكاب “بدر” لجرائم ضد الإنسانية لقيت نوعاً من التشجيع داخلياً من طرف رئيس الوزراء نوري المالكي، وخارجياً من إيران، بينما نددت واستنكرتها منظمات وهيئات دولية مهتمة بحقوق الإنسان.
رؤية إيرانية
ولأدائها ودورها المحوري، ليس من الغريب أن نجد “بدر” ورجالها في كل أنشطة الحياة العامة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية للدولة العراقية الحالية، هذا الأمر الواقع ليس صدفة، بل إستراتيجية نمت مع التصور الإيراني الخالص عبر حلفائها العراقيين الشيعة؛ وقد تجلى ذلك واضحاً من الناحية السياسية في تعيين حكومة العبادي في 8 سبتمبر 2014م.
إذ ظهرت “بدر” مرة أخرى كمشروع لا يمكن التفاوض حوله، ولا يمكن تجاوزه، لما يمثله من رهان إستراتيجي غايته إعادة بناء العراق المعاصر وفق رؤية إيرانية، تعيد رسم دوائر الصراع إقليمياً في الشرق الأوسط.
فقد أعلن تعين حيدر العبادي رئيساً للوزراء الدخول في أخطر مرحلة يعيشها العراق، ورغم التدخلات الدولية المتعددة فقد خرجت مليشيات العامري منتصرة، وفي “غفلة” أو عن قصد اكتسب مشروع الهيمنة بالقوة على الدولة العراقية، وإعادة تركيبها، شرعية دولية تحت مسمى حكومة توافقية.