السفير د. عبدالله الأشعل
حذرنا منذ مدة طويلة بأن تسوية مشكلات العرب، واستقامة العرب ضد عدوهم الحقيقي وهو “إسرائيل” أن يتم إجراء حوار بين العرب وإيران؛ لأن إيران دولة أساسية من أبناء المنطقة، وهي تاريخياً دولة آسيوية وليست قوة آسيوية، وإنما هي قوة خليجية محسوبة على الأفق العربي؛ ولذلك فالعلاقات الإيرانية العربية وخاصة الخليجية علاقات وثيقة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وإستراتيجياً.
أما “إسرائيل”، فإنها سرطان يستهدف العالم العربي من خلال فلسطين، فالمقارنة بين “إسرائيل” وإيران تنطوي على جهل بالحقائق وتعمد يشي بالكثير، وللأسف الشديد فإن الذين يعتبرون إيران أخطر من “إسرائيل” يتناسون شهر العسل في العلاقات السعودية الإيرانية قبل أن تستقل مشيخات الخليج عن بريطانيا من الكويت إلى عُمان، وكانت إيران تتبع المذهب الشيعي منذ عام 1601م، وكان الشاه بطبيعة الحال شيعياً، ومع ذلك تزوج الأميرة فوزية السُّنية شقيقة الملك فاروق ملك مصر والسودان في ذلك الوقت، ولم يقل أحد بما يقوله المتنطعون الآن في إطار الفتنة الطائفية الحالية، ويعتبر عام 1979م عاماً فاصلاً في تاريخ المنطقة إذ بدا التقرب العربي الصهيوني وحلت إيران الإسلامية محلهم؛ فتبدل موقف المنطقة تماماً لأسباب عديدة:
أولها؛ أن إيران الشاه كانت صديقة الأسر العربية الحاكمة، وكانت أيضاً صديقة لـ”إسرائيل” والولايات المتحدة، وكانت إيران الشاه أحد أهم أضلاع الإستراتيجية الأمريكية في الحرب الباردة وفي الخليج منذ عام 1946م، وأظن أن أمريكا و”إسرائيل” لن تغفرا للجمهورية الإسلامية أنها الدولة المستقلة الوحيدة في المنطقة، وأنها تعادي “إسرائيل” وتنافس لكي يكون لها ثقل يتناسب مع حجمها في المنطقة، على الأقل كما كانت إيران الشاه، ولم نسمع من قبل عن فكرة الشيعة والسُّنة، وكأننا نكتشف المذهب الشيعي اليوم، صحيح أن إيران الإسلامية لها مشروع إقليمي يتمدد في الفراغات العربية منذ أن ظهر الخليج في بداية السبعينيات وتراجعت مصر بانتهاء الناصرية، ثم ارتماء مصر في أحضان “إسرائيل” والولايات المتحدة منذ عام 1979م، ولكن الصحيح أيضاً هو أن العالم العربي صار جثة هامدة تمرح فيها المشروعات الثلاثة، الصهيوني، والإيراني، والتركي، والأولى أن يتم بلورة مشروع عربي يقوم على أسس الدولة الحديثة وليس العصبية والتهور الذي لازم مصر الناصرية مع كل تقديرنا لحسن النية أو “البراءة الثورية” للعصر الناصري، والذي أدى إلى اصطفاف إيران والسعودية و”إسرائيل” وأمريكا وبريطانيا والأردن مع الإمامة اليمنية ضد انقلاب السلال العسكري، والتي أنهت صفحة مهمة في تاريخ مصر الحديثة بهزيمة مصر عام 1967م هزيمة شاملة، فتقدمت السعودية لتتحدث باسم العالم العربي بعد اختفاء مصر؛ لذلك فإني نبهت منذ سنوات إلى أن السعودية تتحمل وحدها العبء العربي، وأنها تواجه المشروع الإيراني المناهض لـ”إسرائيل” وأمريكا، والذي تغير هو أن نفس المشروع كان في الحضن الأمريكي أيام الشاه، ولكن إيران دخلت إلى جسد العالم العربي من باب الصراع العربي “الإسرائيلي”، ومن قبل كانت حليفا لـ”إسرائيل” وقبلتها واشنطن، فساندت سورية بعد أن هجرتها مصر إلى “إسرائيل”، وساندت المقاومة في لبنان التي حررت بيروت من الاحتلال “الإسرائيلي” والعرب يتفرجون، بل إن العرب هم الذين رتبوا خروج المقاومة الفلسطينية من المنطقة نفياً إلى تونس، مع السفير “فيليب حبيب”، المبعوث الخاص الأمريكي من أصل لبناني، وكلما تخلى العرب عن المقاومة ضد “إسرائيل” ازدادت مساندة إيران لها، بل إن العرب قد أسقطوا القضية الفلسطينية – رغم كل الكلمات الكبيرة – من حسبانهم.
ما يحدث في اليمن وفي سورية وفي البحرين ولبنان والعراق يقع في دائرة الصراع السعودي الإيراني والاستقطاب بين الطرفين، بل إن الخطاب العربي يشجع على الفتنة الطائفية بين السُّنة والشيعة، فكيف تحولت إيران وصورتها في العالم العربي من صورة البطل المساند للمقاومة والحق العربي الذي تخلى عنه أصحابه إلى أن أصبحت العدو الأول للعرب الرسميين؟ كما صار المذهب الشيعي عند الإسلاميين العرب محاطاً بالشكوك المذهبية وغيرها، وكأنه اكتشاف حديث تفتق عنه الذهن العربي العبقري.
نستطيع أن نقترح خمسة أسباب لهذا التحول الخطير في صورة إيران و”إسرائيل”:
السبب الأول؛ يتعلق بفشل العرب في صد “إسرائيل” حرباً أو سلماً، بل إن “إسرائيل” هي التي تغلغلت في الجسد العربي وسيطرت على آليات صناعة القرار فيه، وساعدها على ذلك تخبط التيار الإسلامي دينياً وسياسياً، ثم استخدامه من جانب الولايات المتحدة منذ أكثر من أربعة عقود لتحقيق الأهداف الأمريكية و”الإسرائيلية”، ويتصل بهذا السبب الهيمنة الأمريكية القاتلة على المقدرات العربية ومساندة “إسرائيل”، ولذلك عندما تعترف واشنطن بأن إيران يجب أن تكون لاعباً أساسياً في المنطقة يجب أن يدفع العرب جميعاً للتساؤل عن الأسباب والتساؤل عن التقاليد الأمريكية في التعامل مع هذه المنطقة، فالعرب يدركون أن واشنطن لا تقيم وزناً كبيراً للعالم العربي الذي تضمن مصالحها فيه بوسائلها، وتريد أن يكون أداة في يدها في حربها ضد إيران، وكان أولى بالعالم العربي أن يتدبر الرؤية الإستراتيجية للأحداث؛ لأن الاتفاق الأمريكي الإيراني لا يعني إطلاق يد إيران في المنطقة بل يعنى إطلاق يد واشنطن في إيران، وأن العالم العربي بدأ يصطف إلى جانب “إسرائيل” في عرقلة الاتفاق، وهذا لن يحدث، ولكنه موقف يدعو إلى الرثاء.
السبب الثاني؛ هو أن العرب هم من ضيع العراق منذ تدليلهم لـ”صدام” ثم إعانته على محاربة إيران، ثم استدراجه إلى الكويت، ثم القضاء على جيشه بالتعاون مع واشنطن، ثم إعانة واشنطن على غزو العراق، وقل ما يحلو في هذا السياق في تدمير الأوطان العربية المسماة بالجمهورية، دخول العرب وراء “صدام حسين” لمحاربة الثورة في إيران، قد أقنع إيران بأن العراق تحت “صدام” خطر عليها، فلما صار “صدام” خطراً على الكويت والخليج تم استدعاء واشنطن لكي تخرج “صداماً” وتتظاهر بأنها تحمي العرب من إيران، وكلما بالغت في التهديد الإيراني عظم ثمن الحماية حتى سلمت العراق لإيران، وهذه النقطة تقودنا إلى السبب الثالث.
السبب الثالث؛ هو أن إيران ارتكبت أخطاءً فادحة، ولم تتنبه إلى أخطار هذه الأخطاء، وكم كان بودي ولا أزال أن يقوم تحالف عربي إيراني تركي؛ وهو الصيغة المثلى لخدمة القضايا العربية رغم الحالة العصبية التي تسود المنطقة وتعاكس هذه الرغبة القديمة الإستراتيجية.
أول أخطاء إيران أنها حصلت على مكاسب لم تسعَ إليها في العراق، فبالغت إيران بالتعاون مع الولايات المتحدة في محاربة العروبة والسُّنة في العراق، وبذرت بنفسها بذور الطائفية التي تضر إيران أكثر من غيرها، ثاني هذه الأخطاء هي أنها شعرت أن الشيعة في المنطقة العربية يمكن أن يكونوا أوراقاً في يدها، وقد حذرت مراراً من ذلك؛ لأن العربي هو عربي قبل أن يكون شيعياً أو سُنياً، وأن الاعتماد على الطائفية يمزق الأوطان العربية، ولكن إيران مع حماقة زعماء التيار القومي في مصر والعراق، وكذلك ضرر هذا التيار على “إسرائيل” والخليج؛ قد مهد لأن يعمل الجميع من الناحية السياسية على ضرب الروح القومية، ثم تكفلت المؤامرة على الإسلام والمسلمين، وأهم تجلياتها عقلية التيارات الإسلامية المعاصرة، فهددت هوية المنطقة العربية الإسلامية، بدلاً من تعاون كل هذه الأطراف على إعادة بناء الهوية على أسس سليمة عربياً وإسلامياً، الخطأ الثالث لإيران هو أنها ظنت أن الثورات العربية هي ثورات إسلامية وامتداد للثورة الإيرانية، وظن الخليج أن هذه الثورات معاول هدم لنظمه وتحريض شعوبه؛ فاتخذوا بدرجات متفاوتة كل ما يمكن، ووجدوا في “إسرائيل” وواشنطن شعوراً موازياً لإحباط آمال الشعوب العربية كل بطريقة مختلفة، المهم أن الإحباط ساد الشعوب العربية في هذه البلاد، وتمنت لو أن هذه الثورات لم تقم، وأنها كانت شؤماً عليها، ولكن الصحيح هو أن هذه الشعوب لا تزال تطالب بمطالبها المشروعة التي رفعتها خلال الثورات، والأفضل أن يتم الوفاء بها دون مزيد من الانفجارات.
الخطأ الرابع؛ أن إيران تصورت أن مجرد دعم المقاومة يمكن أن يبرر شرعيتها في العالم العربي، فانصرف العرب عن مواجهة “إسرائيل” إلى مواجهتها، ولا أظن أن ذلك يسعد معظم العرب، ولكنه يثقل كاهلهم، فلا شك أن الخلط بين المقاومة في لبنان وفي فلسطين وبين النفوذ السياسي في المجتمع اللبناني والمجتمع الفلسطيني قد دفع التنافس السياسي لكي يطغى على المواقف المناهضة لـ”إسرائيل”، ولكننا لم نفهم المصلحة العربية في مشاركة الخليج في ضرب “القذافي” مع الناتو، وماذا يفعل في سورية وفي كل تدخلاته وأمواله التي ذهبت بعيداً عن المصلحة العربية؟
السبب الرابع هو الأزمة الدينية والسياسية للتيارات الإسلامية التي تكفر الشيعة، وتعتبر أن المشروع الإيراني هو مشروع طائفي، ولم تتمكن من التوفيق بين عدائها لدول الخليج في الحالة المصرية وانسجامها مع دول الخليج في الحالة السورية وفي الحالة اليمنية وصدامها معها في الحالة الليبية؛ مما يشير إلى أن هناك خللاً خطيراً في التفكير الخليجي وتفكير الجماعات الإسلامية.
السبب الخامس؛ هو أن المشروع التركي قد هزم أمام المشروع الصهيوني في موقعة “مافي مرمرة” في 31 مايو 2010م، وكان يهادن المشروع الإيراني إلى أن تصادم معه على الأراضي السورية، ثم هو يتحرش به الآن في اليمن؛ مما يعني أن إيران قد فشلت في ضبط سلوكها تجاه تركيا، أو أن تركيا قد خاب أملها في مشروعها، فاتجه “أردوغان” إلى مواقف متناقضة، فهو يتحالف مع الخليج عموماً ضد إيران، ويعادى النظام في مصر حليف الخليج، كما يلتزم الصمت تجاه الموقف في البحرين وليبيا، ويكاد يعرض أن يكون جزءاً من القوة العربية المشتركة، ولكن ما لا يمكن أن نسمح به أن يصل تخبطه وفقدانه للبوصلة إلى تكوين محور سُني ضد ما سمي الهلال الجغرافي الشيعي، فقد حاول أن ينافس إيران في فلسطين فردته “إسرائيل” إلى صوابه.
الخلاصة أن مأساة المواطنين والأوطان العربية تتفاقم، ودعوت الله في الحرم أن يبعث فينا “شارون” أو “نتنياهو” عربياً، ينتشلنا من الجهالة والضلال، إنه سميع مجيب.