لم تتخذ الولايات المتحدة الأمريكية موقفاً واضحاً مما حدث في مصر منذ انقلاب 30 يونيو 2013م ضد الرئيس “محمد مرسي”، وحينها لم تصف واشنطن ما حدث بأنه “انقلاب عسكري” ولم تعتبره “ثورة شعبية”، لاسيما وأنه وفقاً لقانون أمريكي، يجب وقف المساعدات العسكرية لأي دولة تعترف واشنطن رسمياً بأن ما حدث فيها “انقلاب عسكري”.
لكن واشنطن أعلنت عن قرارات بعثت برسائل سلبية، منها التعليق الجزئي للمساعدات العسكرية الأمريكية للقاهرة، وتأجيل تسليم مقاتلات “F 16” ومعدات عسكرية كان قد جرى الاتفاق عليها مسبقاً.
وأعلن البيت الأبيض بصورة مفاجئة يوم الثلاثاء الماضي أن الرئيس الأمريكي “بارك أوباما” أجرى اتصالاً هاتفياً بـ”عبدالفتاح السيسي” وأبلغه بقرار واشنطن تسليم مصر طائرات “إف 16” ودبابات وصواريخ.
وهو ما اعتبرته وسائل إعلام مصرية، رسمية وخاصة، رضوخاً أمريكيا للإرادة المصرية تحت وطأة تقارب القاهرة العسكري مع روسيا، وتوقيع صفقة شراء مقاتلات “رافال” الفرنسية في فبراير الماضي.
قرار متوقع
لكن مراقبين يرون أن هذا القرار لا يمثل رضوخاً ولا حتى مفاجأة، فالعلاقات بين البلدين وإن خيَّم عليها التوتر، تحكمها مصالح مشتركة عميقة، وهو ما يدركه بسهولة المتتبع لتلك العلاقات منذ الانقلاب على الرئيس “مرسي” في يوليو 2013م.
فمنذ يوم 3 يوليو وحتى فض قوات الأمن اعتصامي “رابعة العدوية” و”نهضة مصر” المؤيدين لـ”مرسي”، يوم 14 أغسطس 2013م، وما أسقطه ذلك من مئات القتلى، لم تتخذ واشنطن أي موقف سلبي تجاه الإدارة المصرية، وظلت تصريحات المسؤولين الأمريكيين تدور حول أهمية احترام القاهرة لحقوق الإنسان، حتى جاء فض الاعتصامين ليزيد من نبرة الانتقادات الأمريكية للإدارة المصرية.
وفي يوم الفض، عقد وزير الخارجية الأمريكي، “جون كيري”، مؤتمراً صحفياً، دعا فيه إلى تعليق العمل بقانون الطوارئ في مصر، وتفادي العنف بين المعتصمين وقوات الشرطة والجيش، واحترام إرادة الشعب.
وفي اليوم ذاته، أدان المتحدث باسم البيت الأبيض، “جوش أرنست”، لجوء قوات الأمن المصرية إلى العنف ضد المتظاهرين.
بيد أن الإدانة الأكبر لعملية الفض، التي سقط فيها مئات القتلى، جاءت من الرئيس الأمريكي، “باراك أوباما”، الذي كان وقتها في عطلة، لكنه، وبعد يوم من فض الاعتصامين، قال، في بيان صوتي عن مصر ألقاه من مقر عطلته في ولاية ماساتسوشيس الأمريكية: إن الولايات المتحدة الأمريكية تدين استخدام العنف والإجراءات الأمنية التي اتخذتها الحكومة المصرية، ولابد من إنهاء حالة الطوارئ، التي تقيد الحريات الشخصية للمدنيين، وألا تستخدم السلطات المصرية العنف ضد المدنيين، وتحترم الحقوق العالمية للإنسان التي تدعمها الولايات المتحدة.
وفي تهديد بتراجع التعاون بين البلدين، مضى “أوباما” قائلاً: إن التعاون التقليدي مع مصر لا يمكن أن يستمر كما كان بينما هناك من يقتلون في الشوارع، والولايات المتحدة ستتخذ خطوات أخرى، غير إلغاء المناورات العسكرية، فيما يتعلق بالعلاقات مع مصر.
وجاء هذا التهديد، رغم تأكيد الرئيس الأمريكي، في البيان نفسه، على أهمية الشراكة مع مصر، واعتبارات مصالح بلاده في المنطقة، والتي تفرض عليها الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الدولة المصرية.
مفارقات
والمفارقة أنه بينما كان الإعلام المصري يتحدث عن كسر الاحتكار الأمريكي لتسليح الجيش المصري، كمبرر للتقارب المصري الروسي، ثم صفقة طائرات “الرافال” الفرنسية، كانت الزيارات المتبادلة بين المسؤولين في القاهرة وواشنطن مستمرة، وحملت هذه الزيارات تصريحات إيجابية تؤكد أهمية العلاقة بين البلدين.
فقد زار وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري” القاهرة أكثر من مرة بعد الانقلاب على الرئيس “مرسي”، أولها في نوفمبر 2013م، وقال خلال هذه الزيارة، قبل انتخاب “السيسي” رئيساً: إن مصر شريك حيوي تلتزم واشنطن بالعمل معه، وهناك مؤشرات على أن قادة الجيش المصري مستعدون لإرساء الديمقراطية في البلاد.
حينها، ولدى استقباله “كيري”، قال الرئيس المصري المؤقت، “عدلي منصور”: إن العلاقات الثنائية المصرية – الأمريكية لا يليق اختزالها في ملف المساعدات، فالمساعدات جزء من المصالح المشتركة بين البلدين التي هي أشمل وأكبر من ذلك بكثير.
وفي مايو 2014م، زار وزير الخارجية المصري، آنذاك، نبيل فهمي، واشنطن، ووصف العلاقات المصرية الأمريكية، في مقابلة مع الإذاعة الحكومية الأمريكية، بعلاقة الزواج، قائلاً: إنها تشبه علاقة الزواج، وليست مجرد نزوة عابرة.
وزار وفد من الكونجرس الأمريكي القاهرة، في يناير 2014م، بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وهي خطوة اعتبرها الإعلام المصري تأييداً لخارطة الطريق، التي أعلنت في انقلاب الثالث من يوليو 2013م، وكان من بين بنودها، إضافة إلى الانقلاب على سلطة الرئيس “مرسي”، تجميد العمل بالدستور وتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد.
وخلال هذه الزيارة، قال رئيس اللجنة الفرعية لشؤون أوروبا وآسيا في لجنة العلاقات الدولية بالكونجرس، “أنا رورا باتشير”: إن واشنطن تريد المضي قدماً في الشراكة العسكرية مع مصر واستئناف تقديم المساعدات التي جرى تجميدها.
ليس هذا فحسب، بل إن “أوباما” التقى نظيره المصري، “السيسي”، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2014م، وتحدثا عن أهمية العلاقات بين البلدين.
وقبلها بعام، وبعد نحو شهرين من الانقلاب على الرئيس “محمد مرسي”، قال “أوباما” أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2013م: إن الرئيس “محمد مرسي” لم يكن قادراً على تحقيق مطالب المجتمع المصري، مضيفاً أن بلاده مازالت تحتفظ بعلاقة بناءة مع القيادة العسكرية في مصر.
مناورة دبلوماسية
وعلى ضوء كل ما سبق، يمكن وصف القرار الأمريكي، الذي اتخذه “أوباما” مساء الثلاثاء الماضي، برفع تعليق المساعدات العسكرية لمصر، وكذلك التصريحات المتبادلة بين واشنطن والقاهرة؛ بأنه شكل من أشكال “المناورة الدبلوماسية”، التي لا تعبر بأي حال من الأحوال عن الحقيقة.
والحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر علاقتها مع مصر “علاقة إستراتيجية مهمة لواشنطن”، ويعبر عن ذلك المقولة الشهيرة للرئيس الأمريكي الأسبق، “دوايت أيزنهاور”: “الشرق الأوسط مثل الزرافة، ومصر هي رقبة الزرافة، والذي يريد أن يمسك بالزرافة عليه أن يمسك برقبتها”.
وحسب المراقبين، فإن هذا الحرص الأمريكي على العلاقات مع مصر تأكد بإبلاغ “أوباما” لـ”السيسي” بأن واشنطن قررت رفع حظر تسليم القاهرة مقاتلات “إف 16”.
اليمن كلمة السر
لكن يبقى السؤال المهم عن توقيت الإعلان عن القرار الأمريكي برفع الحظر، والذي لا يمكن نزعه من السياق الإقليمي، وما يشهده اليمن، منذ أعلنت السعودية من سفارتها بواشنطن، فجر السادس والعشرين من الشهر الماضي، عن انطلاق عملية “عاصفة الحزم” العسكرية لضرب معاقل مليشيات الحوثي المدعومة إيرانياً، وقوات الجيش الموالية للرئيس المخلوع “علي عبدالله صالح”، وذلك استجابة لطلب الرئيس اليمني، “عبد ربه منصور هادي”.
وتقدم واشنطن دعماً لوجستياً واستخباراتياً للتحالف المشارك في عملية “عاصفة الحزم”، بل الأكثر من ذلك أن مجلة “فورين بولسي” الأمريكية تحدثت عن مشاركة فعلية غير معلنة للولايات المتحدة ضمن هذه العملية.
وحسب وكالة “الأناضول”، فإنه إذا كانت الولايات المتحدة لن تشارك، بناء على مواقف “أوباما”، بجنود أو معدات عسكرية على الأرض، فإن حلفاءها، وبينهم مصر، يمكن أن يقوموا بهذا الدور، كما قاموا به في مرات سابقة.
وكانت مصر هي القوة الثانية بعد الولايات المتحدة في حرب الخليج عام 1991م، حين تعرضت المصالح الأمريكية والعربية على السواء لتهديدات مباشرة باحتلال الرئيس العراقي حينها “صدام حسين” لدولة الكويت، كما شاركت مصر بقوات في مهمة حفظ السلام بالبوسنة والهرسك وإقليم دارفور غربي السودان؛ وهو الأمر الذي يجعل واشنطن دوماً حريصة على علاقة وثيقة مع مصر.
مشاركة مصرية في “الحزم”
وأشارت وكالة “الأناضول” في سياق تحليلها للقرار الأمريكي إلى ما ذكره الخبير في الشؤون العسكرية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، محمد قدري سعيد في مقال له بجريدة “الأهرام” الحكومية يوم 10 أغسطس 2014م، من أن استمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر، واستمرار مناورات “النجم الساطع” بين الجانبين وتطورها المستمر ووصول الدول المشاركة فيها إلي 12 دولة عربية وأوروبية، وعدد الجنود إلى 75 ألفاً، كانت دليلاً على استمرار الثقة في قدرة مصر الإقليمية وجدارتها بدور يتناسب مع إمكانياتها الحقيقية.
وانتهت “الأناضول” في تحليلها إلى أن القرار الأمريكي الأخير برفع الحظر عن مقاتلات “إف 16” ربما يمهد لدور أكبر لمصر في “عاصفة الحزم”، التي تقودها السعودية في جوارها اليمني المضطرب، وهو ما يكشف عن البرجماتية الأمريكية في التعامل مع مصر.