العالم الإسلامي، رغم كثير من بشائر الخير، ومعالم النهوض التي تكتنف مشهده الأملي الكبير، الذي يدلل على غد واعد لهذه الأمة، بفضل ما نشهده من بطولات وتضحيات وصبر ومصابرة ومرابطة، وتنذر بميلاد جديد، سيكون قرة عين لهذه الأمة.
صحيح.. إن أمتنا تعيش حالة من القلق والاضطراب، وترسم ملامحه ريش الارتباك، وعدم الاستقرار، في كثير من مفصاله، كما يعاني من أوضاع سياسية وعسكرية وأمنية، تمثل صورة من صور القهر، أو الاحتلال، في أجزاء أخرى من هذا العالم الإسلامي، الذي يمثل أمة الإسلام، كما أن بروز ظاهرة الاصطفاف الطائفي والعرقي، صار يظهر في أشكال مؤلمة، وأوضاع مختلفة، تنذر بشر مستطير، وكان من نتائجه إراقة الدماء، وإثارة الأحقاد، ويمثل هذا الاتجاه نظام إيران وأذرعته الطائفية، في أكثر من مكان، مع ظهور الثورات المضادة، في أكثر بلدان الربيع، التي تعمل على إجهاض هذه التجارب الوليدة، وهي تبحث عن الحرية والعدل والكرامة وحقوق الإنسان.
وفي الوقت نفسه، يبرز المشروع الصهيوني، بصلفه وعنجهيته، مهدداً أهلنا في فلسطين، ومنذراً بخطر كبير، ينتظر القدس وفلسطين، وعلى أعتاب هذا الشأن، تكون حقيقة المقاومة، ويظهر الشعب الفلسطيني، بإرادة صلبة، وجهاد مستحق، ومقاومة فاعلة، وتكون الحقيقة التي لا يجوز تجاوزها، أن الفلسطينيين يدافعون عن الأمة، خصوصاً بعد الاعتداءات المريرة على بيوت الله المفضلة، في تلك البقعة المباركة.
وفي هذا الخضم، تظهر قضية الغلو (التطرف) بصورها البشعة، وألوانها المزيفة، وأشكالها المقززة، وروائحها المنتنة، وطعومها السيئة، التي أربكت الساحة الإسلامية، إرباكاً، خدمت فيه أعداء الأمة، وعملت على مساندة الباطل، بطرائق مختلفة، ومنحت الجهات المتربصة الفرصة ليتخذوا هذا الغلو (التطرف) ذريعة، للانقضاض على كل جميل، فاختلط الحابل بالنابل، وباسم محاربة الإرهاب، حدثت فوضى عارمة، في النظرية والممارسة والسلوك، وصار عدوان على الأبرياء، وإراقة دماء بغير حق، ومصادرة للحقوق على أصحابها.
“ما خير رسول الله – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – إلاً اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً”.
“خذوا من الأعمال ما تطيقون”، “فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى”.
والحركة الإسلامية، بوسطيتها المعهودة، وبفكرها النظيف، وباعتدالها الرباني، كانت واضحة في موقفها من الغلو (التطرف)، فلم تقبل به، بل قاومته في أدبياتها، ورحم الله الإمام الهضيبي، الذي ألف في عز المحنة والابتلاء، كتابه القيم النفيس “دعاة لا قضاة”.
وفي هذا الخضم تبرز الثنائيات الرهيبة، وازدواجية المعايير، والكيل بعدة مكاييل، في الحدث الواحد، وفي المكان الواحد، فيترك الإرهابي الكبير، ويحصر الإرهاب في المصنع منه، وهذا في بديع السياسة والحقوق، أمر يثير الدهشة، ويبعث على التعجب غير المحدود.
وفي هذه المقالة، سنتحدث عن جانبين:
الأول: في أبرز التحولات، التي حدثت في السنين المتأخرة.
سنتكلم عن أبرز التحولات التي حدثت في أمة الإسلام، ولا نستطيع أن نتناول كل التحولات.
ولعل أهم تحولات تفرض نفسها، في مثل هذا الوضع الذي يرافق حياة الأمة، ما كان من شأن ما يسمى اصطلاحاً بـ”الربيع العربي”.
هذا الربيع، الذي كان نتيجة منطقية، لمقدمات كانت تعاني منها دول “الربيع العربي”، معاناة لا توصف، ضغط منقطع النظير، في مناحي الحياة كافة، أدى إلى هذا الانفجار الثوري الشعبي، وفي مقدمة هذه المعاناة:
– غياب العدل، وانتشار الظلم، وحيثما تكون هكذا معادلة، يحل الويل والقهر، والاستئثار، ونهب الثروة، واستغلال الحياة بكل شعبها، حتى تصب في دهاليز الشر والجريمة، ورحم الله علماء الأمة، الذين أكدوا قاعدة “العدل جماع الحسنات، والظلم جماع السيئات”.
– الاستبداد والدكتاتورية، وشيوع لغة القمع: وهذه آفة عانت منها الأمة معاناة لا توصف، وسطر التاريخ المعاصر، صفحات من ظلام، في تدوين وقائع مثل هذه الأخلاق السلطانية المدمرة، فكان الحزب الواحد، قائد المجتمع والدولة، ولا شريك له، وكان الإعلام الفرد، الذي لا تعدد فيه، حيث يطبل ويزمر للحاكم، ومن دار في فلكه، وسار على منهجه، وغابت التعددية السياسية المثرية، والتداول السلمي للسلطة، ما عاد يعرف إلاً في الخطب الجوفاء، والفلسفات التي ملأت أرفف مكتبات التنظير القمعي، فكممت الأفواه، وحبست الأنفاس، وشاعت لغة الاستسلام للحاكم، ويا ويل من خالف، فزوار الفجر له بالانتظار، والزنازين المنفردة، وسجون البؤس تفتح أبوابها الصدئة، لهؤلاء الأحرار، حتى انتشر أدب – ما عرف إلا في زماننا – ألا وهو أدب السجون، حيث ألفت مسرحيات، وكتبت أسفار، ونشرت مذكرات، وأنشدت أشعار، وجرت دراسات، كلها تحكي قصة مأساة، قل أن عرف التاريخ لها مثيلاً، حيث تسطر ما حصل معها وما شاهدت ورأت، من بشاعة المشاهد، ومن صور التعذيب، ومن مرتسمات الواقع المر، من حصاد السنين، مع طغاة حكموا، ففشا ظلام السياسة، وأغلقت نوافذ الحرية، وعلق الأبرار الأخيار على أعواد المشانق، ووقع الناس في إسار الطواغيت، الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.
– أما العامل الاقتصادي: فكان له أكبر الأثر، في حركة الجماهير وتململها، حيث تقلصت الطبقة الوسطى، وظهرت طبقة السلطويين والمقربين منهم، من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، تقابلهم طبقة عامة الناس، من الذين عانوا ما عانوا، في ظل هذا الوضع البئيس المحزن، وهذا ما جعل حدوث فجوة رهيبة بين الحاكم والمحكوم، ليس من سبيل إلى ردمها إلاً بثورة طوفانية، تأتي على آخر كرسي من كراسيهم، ولو برجل يحرق نفسه، أو طفل قلع ظفره، أو شابة صاحت، واشعباه واشعباه.
– فكان “الربيع العربي”، وانتصرت إرادة الشعب – بعون الله وتوفيقه – في تونس الحبيبة، وتغلبت الضحية على الجلاد، واستأنف الناس حياتهم، على قيم بحثوا عنها طويلاً، من خلال دستور صنعوه بأنفسهم، وخريطة طريق حددوا خطوطها، ورسموا معالمها، لينتج عنه تبلور صورة مثلى في مرحلتها الأولى، وتتلوها مرحلة ثانية، تواجه بعض المتاعب، ولكنها في طريق الصول إلى بر الأمان، ولا يكون ذلك إلا من نوافذ الأمن، والاستقرار السياسي، على قاعدة السواء، في فضاء الحرية.
– وسنذكر مثالين، من أمثلة التحولات:
1- في مصر:
– حيث كان الدرس الأكثر وضوحاً، في الانتصار على الفساد الشامل، والتحرر الكامل، والإرادة الحرة، ووضع دستور جديد، وانتخب رئيس لمصر، من خلال صناديق اقتراع، شهد بنزاهتها القاصي والداني، فكان الرئيس المنتخب د. محمد مرسي – فك الله أسره ومن معه من الأحرار الثوار – ولما لم ترق لقوى الظلام هذه الحالة في مصر، دبروا الانقلاب الذي قاده عبدالفتاح السيسي، المنقلب على الرئيس الشرعي للبلاد، بل وخطفه ووضعه في السجن، ورافق ذلك ارتكاب مجازر في رابعة وغيرها، مما تقشعر منه الأبدان، واستمر الحراك الشعبي، في معارضة الانقلاب، من خلال مظاهرات وفعاليات، وحراك مجتمعي لافت، مع تصميم لم يكن يتوقعه المراقبون، وما زال الانسداد السياسي، سيد الموقف، والمشهد بجملته يحكي قصة أزمات رهيبة، وعلى الصعد كافة، ولكن الثوار وأنصار الشرعية، ماضون في طريقهم، حتى تعود الأمور إلى وضعها الصحيح، وعلينا جميعاً أن نسهم في مساندة هذا الحراك الجماهيري، حتى يعود الحق لأهله، ونقنع الدنيا بهذا، ولا بديل إلا هذا.
2- في سورية المجاهدة الصابرة المحتسبة:
فلها قصة وشأن، وهي أم الثورات، بما قدمت وبذلت وضحت وصبرت، وما زالت كذلك بعون الله تعالى، وهي ترسم معالم فضل وخير، تؤشر إلى بشائر مجد للأمة، في قابل أيامها، فالمولود آن أوان سطوعه، وعلامات النصر تلوح في الآفاق، رغم كل الجراح والمحن.
واليوم وبعد خمس سنوات من الصمود في معركة، فرضها نظام الجريمة عليه، وقد خرج بسلمية كاملة، يطالب بحقوقه، ويبحث عن الإصلاح، اليوم وبعد ما يقرب من 300 ألف شهيد، 28% منهم مدنيون، و12% منهم من الأطفال، و11% من النساء، مع ما يقارب 300 ألف جريح، ومثلهم من المعتقلين، وقريب من هذا العدد من المفقودين، أما عدد اللاجئين فيقارب الخمسة ملايين، وعدد النازحين يقارب تسعة ملايين، عدد الأسر المتأثرة يقارب 75% من عدد السكان، عدد الأسر التي بقيت بلا معيل 144 ألف أسرة، مع تدمير لملايين المنازل، ولم تسلم من هذا المساجد ولا المدارس ولا المستشفيات ولا المصانع ولا الجسور ولا الأفران.
إن النظام الذي صار يترنح، في أشهره الأولى، حتى كاد أن يسقط، استنجد بنظام إيران، الذي دخل البلد محتلاً، به وبأذرعته، كـ”حزب الله” اللبناني، وعصائب الحق العراقية، وكتائب طائفية، من هنا وهناك، يقتلون ويذبحون أبناء الشعب السوري، ويرتكبون مجازر ضد الإنسانية، في ذلك البلد المبارك، وكانت روسيا السند السياسي والعسكري لهم، حتى دخلوا في الاحتلال الرسمي لسورية، بزعم أنهم استقدموا من حكومة البلد الشرعية، والحق أن من استقدمهم، ساقط الشرعية، وقاتل الأطفال والنساء، من أبناء هذا الشعب، ولم يكن هناك من بد، إلا أن يتصدى هذا الشعب لهؤلاء الغزاة، ويقاومونهم بما ملكوا من قليل المال والسلاح، وصمدوا وصبروا وما زالوا، وهذا حق تكفله شرائع السماء، ومواثيق حقوق الإنسان، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
الثاني: يكون الكلام فيه، عن مقترح، لملامح عمل:
1- العمل على وحدة الأمة، ونبذ الفرقة: وحدة تنسيق وتعاون وتكامل (وأن هذه أمتكم أمة واحدة)، (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
2- تكامل العمل، في جوانب الحياة كافة، وانفتاح الشعوب الإسلامية على بعضها، بلغة الإفادة من بعضهم، كل بما حباه الله به من فضل ونعمة.
3- التأكيد على كل جهد، يصب في جانب الوحدة والتكامل، والعمل من مكونات العمل الجماعي الرسمي والشعبي، لتكون نواة الانطلاق القوية، في بناء الأمة، باللغة التي ذكرنا.
4- ظهور محاور جديدة، في إطار التعاون في الخير، هذا ما يلزم دعمه والتأكيد عليه، مع الاهتمام بطاقات الأمة المذخورة، في باكستان والهند، وماليزيا وإندونيسيا، وغيرها من بلدان المسلمين، فالأمة فيها خير عظيم، وتمتلك من وسائل القوة، وعناصر التكامل، وقواعد بناء الجسد الواحد، ما لا تمتلكه، أمة من أمم الأرض؛ “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد، بالحمى والسهر”.
5- الاهتمام بتركيا وتجربتها الرائدة في إدارة الدولة والمجتمع، ينبغي أن تستثمر في الخير، بحيث نفيد من ساحتها ضمن قانون “لا ضرر ولا ضرار” ونقف مع تركيا، في مواجهة التحديات التي تهددها، والمخاطر التي تحيط بها، فتركيا التي تقف مع قضايا الأمة بشجاعة وقوة وصلابة، تستحق منا هذه الوقفة، وهنا لا يسعنا إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل لتركيا رئيساً وحكومة وشعباً، على جهودهم الكبيرة في مناصرة القضايا العادلة، ومنها بل في المقدمة منها، قضية الشعب السوري، وثورته العادلة.
6- يجب ترتيب الأولويات، في أحداث الأمة، ومناصرة قضاياها، فيقدم الأهم على المهم، من خلال تنسيق الجهود، وإعطاء الوقائع ما تستحق من ترتيب شرعي وسياسي، بنظر دقيق، وتفحص شامل، يراعي فقه الساعة، وواجب الوقت، ومن هذا الترتيب المهم، قضية الشعب السوري، ووجوب مناصرته، وعدم جواز أن يترك في مواجهة التحديات الجسام التي يواجهها وحيداً؛ “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله”.
7- لا تعارض بين الهم القطري، وهم الأمة، أو هكذا يجب أن يكون، فيعمل بالخاص فيما تناوله، وبالعام في الباقي، وفي أصل المسألة يمكن القول: إن العمل القطري، إذا لم يكن قوياً، فلا يمكن أن يقدم ما ينفع الأمة، ففاقد الشيء لا يعطيه، فعلينا أن نقوي العمل القطري، ليكون قادراً على المساهمة في حمل غيره.
8- اليوم تمر الأمة، بمخاض عسير، مع تآمر كبير، ويخيم عليها جو متلبد بغيوم عسرة، لا ندري ما الذي ستفرزه، والشعوب هم مادة البقاء، وأهم ما في جعبة هذا، قوته المعنوية، وألا تنكسر نفسياً، ولا تحبط معنوياً، من هنا كان لزاماً على النخب الغيورة في الأمة، أن تضع النقاط على الحروف، وتبث الأمل في النفوس، وتشيع روح الفأل الحسن، وتعمل على النهوض بمعنويات الشعوب، في مواجهة التحديات؛ “ومن قال: هلك الناس، فهو أهلكهم”.
9- لغة الحوار، ونشر ثقافة التعايش، والاهتمام بحقوق الإنسان، والأعذار حال التخالف، وإشاعة روح السلم المجتمعي، مع التركيز على هم نشر الدعوة، والاهتمام بالتربية، من أهم مقومات الديمومة، والتعاطي الفاعل في لم الشمل؛ “نعمل على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً، فيما اختلفنا فبه، مما يدخل في دائرة الاجتهاد، والرأي الآخر، فخلاف الرأي لا يفسد للود قضية”، لذا علينا أن نضع ميثاق عهد، يصب خيره في هذا المعنى العميق.
10- العلماء ورثة الأنبياء، وعلى عاتقهم مسؤولية كبيرة، في التأصيل الشرعي، وقيادة الجماهير وتوجيهها، فعلى الأمة أن تهتم بهؤلاء العلماء، وتتواصل معهم، وتتعاون مع مؤسساتهم المشهورة، حتى يكون دور العلماء بارزاً في حياتنا؛ (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، يتأكد هذا المعنى أكثر، عندما نرى علماء السوء والسلطان، وهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويناصرون الطغيان، وصاروا سبباً من أسباب الفتنة.