تدل المؤشرات المختلفة على أن أفريقيا من المناطق التي تمتثل للقانون الدولي وأحكام القضاء الدولي، وأحد هذه المؤشرات هو تسوية المنازعات بالطرق السلمية، ونبذ الحرب، والتدخل في الشؤون الداخلية.
ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة؛ وأهمها شعور الأفارقة بأنهم بعد الاستعمار يجب أن يكونوا طرفاً فاعلاً في أسرة الأمم المتحضرة، وأن يعوضوا ما فات.
ونسوق في هذا المقام مؤشرين واضحين؛ المؤشر الأول هو أن مشكلات الحدود الأفريقية لم تسوَّ بالحرب، وإنما بالقانون الدولي، ومن خلال محكمة العدل الدولية، ويشهد على ذلك عدد القضايا والمنازعات التي عرضت على المحكمة منذ استقلال هذه الدول خلال ستينيات القرن الماضي، كما أن هذه الدول خاضت معارك كبيرة في المجال الدبلوماسي والقانوني ضد العنصرية في روديسيا الجنوبية (زمبابوي الحالية)، ونظام آيان سميث في منتصف الستينيات، وضد الآبارتهايد في جنوب أفريقيا، فضلاً عن نبذ أفريقيا للأخطار الكبيرة على نظمها الجديدة؛ وهي الانقلابات العسكرية والمرتزقة والتوترات الإثنية التي تسببت في الحروب الأهلية، والتي كان أهم أسبابها الصراع السوفييتي الأمريكي في الحرب الباردة على الأراضي الأفريقية.
وتجرى في أفريقيا حالياً أنهار كثيرة تستفيد من الأمطار الغزيرة التي تتمتع بها بعض الدول الأفريقية، ومن بينها نهر النيل الذي يسقط عليه حوالي 160 مليار متر مكعب من المياه، ويمكن لهذه الكمية أن تكفي حاجات جميع الدول النيلية، رغم أن معظم احتياجاتها تحصل عليها من أنهار أخرى أو من الأمطار مباشرة، ولكن الدول الأفريقية بدأت تفكر في مزيد من الاستفادة من هذه الأمطار في خطط التنمية، والتحكم في كميات المياه اللازمة لتوليد الطاقة والزراعة والإعمار؛ وذلك عن طريق بناء السدود والخزانات.
ولما كانت أفريقيا لا تعرف القواعد القانونية الخاصة باستخدام المياه وتوزيعها بشكل عادل؛ فإن مشكلات كثيرة بدأت خاصة في نهر النيل بين إثيوبيا التي تمد النهر بعد مروره فيها بمعظم كمياته من المياه، ومصر التي تمثل دولة المصب الوحيدة، والتي تعتمد اعتماداً مطلقاً على نهر النيل، بل إن المؤرخ اليوناني هيرودوت قد اعتبر أن ظهور مصر هو الهدية التي قدمها النيل للبشرية، وكان المصريون يعبدون هذا النهر ويخصصون في موسم حصاد القمح أجمل فتاة في الموسم لكي تقدم قرباناً للنيل، حتى وقت قريب، وبعد أن صار المصريون يعبدون الله الواحد الأحد الذي يُجري الأنهار ويسخر الأمطار، وقد ظل النيل هادئاً لا يشكل أي مشكلة في علاقات الدول التي يمر فيها، ولا يزال كذلك إذا حصرنا المشكلة بين مصر وإثيوبيا على أنها في النهاية انتقاص من حاجة مصر إلى الماء، وعدم وجود أي بديل لديها، على أساس أن حجب المياه في جانب إثيوبيا ليس قضية حياة أو موت، ولكن هذا الحجب يؤدي إلى القضاء على مصر بكل مكوناتها.
وحلاً لهذا الإشكال بطرق حضارية، خاصة وأن فكرة السدود قد تنتشر في دول أخرى تؤثر على مصر، فإننا نحث الدول الأفريقية على أن تعقد مؤتمراً في القاهرة لتدشين القانون الدولي الأفريقى عموماً وللمياه بشكل خاص، فقد سبق في بداية القرن العشرين أن ظهر فقهاء يطالبون بتكريس المبادئ اللازمة لقوانين فرعية من صلب القانون الدولي في المناطق المختلفة، أُطلق عليها القانون الدولي الإقليمي، ولكن هذه الفكرة عارضتها الولايات المتحدة؛ لأنها تريد أن تمارس سلطة عالمية لا تحدها خصوصيات إقليمية خاصة في أمريكا اللاتينية التي كانت تحت بصر الولايات المتحدة منذ مذهب الرئيس مونرو 1823م.
والقانون الدولي الأفريقي للمياه يستمد مصادره من القانون الدولي العام بمصادره المختلفة، وخاصة اتفاقية الأمم المتحدة في عام 1997م، والمتعلقة باستخدامات غير الملاحية للمجارى المائية الدولية، وهو المصطلح الذي أدخلته الاتفاقية بديلاً عن الدول النهرية أو دول الأحواض.
وغني عن البيان أن هذا القانون مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحدود السياسية التي ارتضت أفريقيا أن تحلها بقاعدة جديدة تطورت من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا، ثم انتقلت بعد ذلك إلى أوروبا، خاصة بعد تحلل الاتحاد السوفييتي والاتحاد اليوغسلافي لكي تحل جانباً من مشكلة التوارث الدولي.
هذا المبدأ وهو تحويل الحدود الإدارية في عهد الاستعمار إلى حدود سياسية في عهد الاستقلال، وهو مبدأ في القانون الروماني يطلق عليه لكل ما حاز.
وينظم القانون الدولي العام للمياه توزيع المياه بين دول النهر، بعد أن تجاوز المجتمع الدولي عدداً من النظريات في تكييف علاقة الدولة بجزء من النهر الذي يمر في أراضيها، وانتهى القانون الدولي إلى قواعد عادلة حتى لا تُلحق دولة المنبع مهما كانت مصالحها ضرراً محسوساً بدولة المصب، وحتى لا تتسبب التطبيقات الخاطئة لهذا المبدأ في مآسٍ لا تتمانها الدول الأفريقية أو منازعات تعصف بأمنها وسلامها.
ونقترح أن يشكل الاتحاد الأفريقي لجنة لتقنين القانون الدولي الأفريقي في مجال المياه على غرار الأمم المتحدة، وأن ينشئ غرفة لمنازعات المياه الإقليمية تتمتع أحكامها بالفعالية وتساندها جميع الدول الأفريقية.
صحيح أن الدول الأفريقية لجأت إلى محكمة العدل الدولية لتسوية مشكلات الحدود، وهذا أمر يختلف عن موضوعنا؛ لأن مشكلات الحدود صنعتها الدول الاستعمارية ويهتم بها المجتمع الدولي ممثلاً في المحكمة العالمية.
إن القانون الدولي الأفريقي يمكن أن يشجع القارات الأخرى مثل أمريكا اللاتينية وآسيا على استكمال البنية القانونية لمنظماته الإقليمية، خاصة وأن الاتحاد الأفريقي قد رسم آمالاً كبيرة للقارة، وآن الأوان لأن تأخذ القارة مكانها اللائق خاصة بعد أن سجلت تجربة مهمة في مجال القانون الجنائي الدولي، وتقف الآن لمراجعة أعمال المحكمة الجنائية الدولية ومسار العدالة الجنائية فيها.