مسارعة نظام العقيد معمر القذافي إلى استخدام السلاح ضد المتظاهرين السلميين منذ الأيام الأولى لثورة 17 فبراير2011م هي ما ميّزت ثورة الليبيين عن ثورات “الربيع العربي” التي سبقتها.
وترك هذا التفرد بصمته على التطورات اللاحقة لثورة ليبيا، فسرعان ما تفكك جهاز الدولة بفعل الاستقالات المتوالية للمسؤولين، بالتزامن مع انحياز الجيش للثوار ولجوء الطرفين إلى العنف رداً على عنف النظام وكتائبه الأمنية.
وتحت غطاء من مجلس الأمن الدولي والقوى الكبرى فيه خصوصا أمريكا وفرنسا، تدخل الطيران الحربي لحلف الشمال الأطلسي (ناتو) دعماً للثوار في مواجهة القذافي وبقايا نظامه.
وبعد شهور من الصراع حسمت المعركة بإلقاء القبض على العقيد القذافي وقتله في أكتوبر من العام ذاته، وانطلقت بعدها تجربة ديمقراطية بدت واعدة، قبل أن تفتك بها النزعات القبلية والجهوية؛ مما عطل عملية إعادة بناء الدولة وفتح الباب واسعاً للاقتتال الأهلي.
وزاد في تأزم وضع ليبيا تحولها إلى مجرد ساحة للنزاعات المحلية والإقليمية؛ مما سهل لتنظيم “الدولة الإسلامية” عملية اختراقها، وفتح ذلك الباب لتعقيد جديد في الصراع الجاري على أرض ليبيا وأدخلها ضمن جغرافيا الحرب على التنظيم.
التغطية التالية تعيد التذكير بأحداث الثورة الليبية على وقع الصورة القاتمة للتدخلات الدولية القائمة حالياً في ليبيا، وتلك المتوقعة على ضوء تمدد رقعة انتشار “تنظيم الدولة” هناك.
سيل من القرارات الأممية
ضربت ليبيا وأزمتها الداخلية بعد ثورة 17 فبراير رقماً قياسياً في عدد القرارات الأممية التي صدرت بشأن الأوضاع فيها، وعدد المبعوثين الأمميين الذي أرسلوا إليها في محاولة لإعادة الاستقرار والأمن إلى هذه البلاد، وإطلاق عملية ديمقراطية تبني مؤسسات الدولة بعد خمس سنوات من تمزقها أمنياً وسياسياً.
سيل من القرارات التي بلغ عددها 17، كان أولها بعد تسعة أيام من انطلاق الثورة، وآخرها في 23 ديسمبر 2015م.
ويبرز من بينها القرار رقم (1970) الذي صدر في 26 فبراير 2011م، وأدان فيه مجلس الأمن الانتهاكات الجسيمة والمنهجية لحقوق الإنسان، واعتبر أنها ترقى إلى مرتبة جرائم ضد الإنسانية، وقرر إحالتها تحت الفصل السابع إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
وبعد أقل من شهر جاء القرار (1973) الذي سمح باتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية المدنيين والمناطق المأهولة بالسكان المدنيين المعرضين لخطر الهجمات، وتم بموجب هذا القرار تشريع تدخل حلف “الناتو” في الحرب على نظام القذافي، بالتزامن مع حظر الرحلات الجوية في المجال الجوي للبلاد.
ومع سقوط العاصمة طرابلس في أيدي الثوار أواخر أغسطس 2011م، أصدر مجلس الأمن القرار رقم (2009) في 16 سبتمبر 2011م الذي أنشئت بمقتضاه “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” (أونسميل). ثم جاء قرارات لتخفيف العقوبات المفروضة على ليبيا، ثم رفعها نهائياً والتمديد لبعثة “الأونسميل”، ومساعدة البلاد على تحقيق الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب ومكافحة الهجرة عبر شواطئ ليبيا.
أما القرار الأخير رقم (2259)، فرحب فيه مجلس الأمن الدولي باتفاق الصخيرات في ١٧ ديسمبر 2015م الذي يقضي بتشكيل مجلس رئاسي مؤلف من تسعة أعضاء.
قصص مختلفة
وللمبعوثين الأمميين إلى ليبيا قصص مختلفة، حيث تناوب على رئاسة بعثة “الإونسميل” أربعة شخصيات من جنسيات مختلفة بينهم عربي.
والمبعوثون هم: الدبلوماسي البريطاني إيان مارتن (11 سبتمبر 2011 – 17 أكتوبر 2012م)، ثم السياسي اللبناني طارق متري (12سبتمبر 2012 – سبتمبر 2014م)، فالدبلوماسي الإسباني برناردينو ليون (أغسطس 2014 – 4 نوفمبر 2015م)، ثم الدبلوماسي الألماني مارتن كوبلر (28 أكتوبر – حتى الآن).
وواكب مارتن إرهاصات التحول الديمقراطي الأولى في ليبيا بعد مقتل القذافي في نوفمبر 2011م، ثم تنظيم انتخابات ديمقراطية في يوليو 2012م لأول مرة منذ انقلاب القذافي قبل 41 عاماً.
بعد مارتن، تسلم اللبناني طارق متري مسؤولية بعثة المساعدة إلى جانب مسؤولية الإشراف على تطبيق قرارات مجلس الأمن، وبعد توليه مهام منصبه بشهور، أعلن متري أن انتخابات ليبيا “لم تكن مثالية”، نظراً للصعوبات الأمنية، وفي 19 يونيو 2013م انتقد قانون العزل السياسي، معتبراً أنه “يكرس الإقصاء”، وشدد على ضرورة الجلوس للحوار، لكنه عاد في يوليو 2014م ليؤكد أن القوى الليبية المتصارعة “ضيعت فرصة الحوار”.
دور ليون
ثم جاء دور ليون الذي تمكن من إقناع برلمانيين من المؤتمر الوطني وبرلمان طبرق بالاجتماع في غدامس بغرب ليبيا، ونجح في عقد المفاوضات في مدينة جنيف السويسرية، حيث عقد المتحاورون جلستين في يناير 2015م، ثم انتقل برلمانيون وممثلون من المجتمع المدني إلى مدينة الصخيرات بالمغرب مطلع مارس 2015م، ووقع المشاركون في الحوار يوم 11 يوليو 2015م بالأحرف الأولى على تشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية، واعتبار برلمان طبرق الهيئة التشريعية، وتأسيس مجلس أعلى للدولة.
أما الدبلوماسي الألماني كوبلر الذي انتقل من وزارة خارجية بلاده إلى العمل مع الأمم المتحدة عام 2010م مساعداً للمبعوث الأممي لأفغانستان، فقد شهد في 17 ديسمبر 2015م اعتماد اتفاق الصخيرات، وإعلان المجلس الرئاسي تشكيلة حكومة الوفاق، وصرح في فبراير 2016م بأنه يمكن للحكومة الليبية الجديدة أن تطلب استثناء من حظر السلاح الذي تفرضه الأمم المتحدة، وطلب مساعدة المجتمع الدولي في حربها على تنظيم “الدولة الإسلامية”.