الزميل الدكتور حامد الحمود كتب على مدى ثلاثة أيام عدة مقالات ناقدة لمفهومي عن العلمانية، وسجل فيها إعجابه بهذه العلمانية مبيناً فوائدها على الكثير من الدول، كما استعرض تاريخ مصطفى كمال أتاتورك في ازدهار تركيا وتطورها، وانتقد سيرة بقايا الخلفاء العثمانيين، وقال كلاماً كثيراً يمجد فيه العلمانية والعلمانيين!
لن أعلق على ما ورد في مقالته، وسأتجاوز عن بعض مفردات الشخصنة التي تسللت في ثنايا المقال (جهل، عداء دغمائي)، لكني سأعلق بأسلوب مبسط بعيداً عن استحضار التاريخ واستشهاداته المعقدة والمختلف عليها، وسأوضح للزميل الفاضل فهمي الذي التبس عليه للعلمانية، وأقول إنني أفهم العلمانية أنها مبدأ فصل الدين وتوجيهاته الربانية عن الحياة العامة للناس، فليس مقبولاً عند العلماني أن تقول له إن هذا الطعام يجوز أكله وهذا لا يجوز أكله، أو إن هذا الكلام مباح وهذا غير مباح، أو أن تحدد له خطوطاً حمراء لا يتجاوزها في علاقاته الشخصية مع الآخرين؛ فتقول هذه العلاقة جائزة وتلك محرمة! كما أن العلماني، وفقاً لمفهومي عنه، لا يقبل أن تمنع المرأة بأن تلبس ما تشاء وتخرج كما تشاء وتعمل ما تشاء، ولا أن تقول هذا اللباس حلال وهذا اللباس حرام.. هذه هي العلمانية، وهذا هو العلماني الذي أفهمه بهذه البساطة وهذه السطحية التي لا تحتاج إلى خوض في أعماق المصطلحات! اختصرها فيلسوفهم بقوله «ما لله لله وما لقيصر لقيصر»، أو كما قيل «الدين لله والوطن للجميع»!
وهنا موطن الخلاف بيننا وبين العلمانيين؛ فنحن نعتقد ونؤمن بأن الدين جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لينظم علاقة الإنسان بربه وأيضاً علاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه؛ فنظم العبادة وكيفيتها، كما نظم طبيعة التعامل مع الآخرين، فأرسى الحقوق والواجبات لكل الأطراف، ومنع تجاوزها وسن العقوبات للمخالفين كي تستقيم الحياة وتُمنع الفوضى، وشجع على فعل الخير للفوز بالجنة، ورهّب من عمل الشر «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».
الإسلام حرّم الخمور والزنى والقمار وأكل الربا، وحرّم كل ما يؤدي إلى هذه المنكرات، من النظرة المحرمة والسفور والخلاعة والمخدرات وغيرها، بينما العلماني يرى أن معظم هذه الأشياء حقوق شخصية وسلوك شخصي وحرية لا يجوز التدخل فيها!
هذه هي العلمانية التي أفهمها، وهذا هو الفرق بينها وبين الإسلام الذي ندين به، فهل مازلت مصراً على أنني جاهل بالعلمانية؟!
أمّا الحديث عن تركيا وأتاتورك فلن أطيل معك النقاش، فهذه علمانية أتاتورك تنهار بعد أقل من مائة عام كانت فيها تركيا من الدول المتخلفة، واليوم يأتي حفيد السلاطين لينقلها بفكره الديني وليس العلماني إلى مصاف الدول المتقدمة، كما أن تخلف دولنا اليوم ليس بسبب الإسلام أو الفكر الديني المُحَارَب منذ عقود، بل بسبب العلمانية التي حكم بها قادة كان هدفهم الأول محاربة ظاهرة التدين وإفساد المؤسسات والتلاعب بمقدرات الدولة، وعندما حاولت الأمة أن تصحو من غفوتها تم كبح جماحها! انظر إلى ثورات الشعوب الداعية إلى التحرر من الحكم الدكتاتوري، من أيّد قمعها غير رموز الليبراليين وأصحاب الفكر العلماني، واليوم تأتيني لتضرب مثالاً في دول تختلف واقعاً وتاريخاً عن دولنا وواقعنا العربي وتدعي مثالية العلمانية!
* ينشر بالتزامن مع صحيفة “القبس” الكويتية