تنتشر في الهند مساحات شاسعة من الأراضي المسيجة المعروفة باسم “الوقف”، وتقع تلك الأراضي في العاصمة دلهي وفي المدن الرئيسة التي كانت حواضر الدولة الإسلامية في الهند، أو في باقي الولايات التي خضع معظمها للحكم الإسلامي على مدى قرون.
وأول توثيق للوقف الإسلامي في الهند كان على يد المؤرخ ضياء الدين البرني في القرن الثالث عشر، حين تحدث عن وقفيات إسلامية أوقفها السلطان جلال الدين فيروز خليجي، أول حاكم لسلطنة دلهي في نهايات القرن الثالث عشر، وهو مؤسس سلالة خليجي التي حكمت السلطنة فيما بعد.
ووفقاً لكتاب “السلطان معز الدين جهر”، فإنه تمَّ تسليم العديد من الأراضي والممتلكات لما كان يعرف بإدارة “شيخ الإسلام”، وهي أعلى إدارة دينية في الدولة الإسلامية في الهند، من أجل وقفها لخدمة مشاريع خيرية إسلامية.
الوقف تحت حكم الدولة
بقيت الأوقاف الإسلامية قائمة وينتفع بها طوال فترة الحكم الإسلامي التي امتدت لنحو سبعة قرون، وخلال فترة الاستعمار البريطاني وقع على تلك الأوقاف ما وقع على البلاد بشكل عام.
بعد استقلال الهند وانفصال باكستان سنّت الحكومة الهندية قانونَ الوقف عام 1954، وصنفت فيه الوقف الإسلامي على أسس الغرض من استخدامه، وكان من ضمنه وقف المقابر وابن السبيل، ووقف نهاية الخدمة للموظفين، ووقف القضاة والأئمة والخطباء، ووقف ذوي القربي. كما كان هناك وقف لعدد من الأغراض الخيرية والدينية.
بعد سنِّ قانون الوقف عام 1954م وجهت الحكومة المركزية تعليمات إلى كافة الولايات الهندية من أجل تنفيذ قانون إدارة المؤسسات الدينية الخاصة بالمسلمين، وشملت المساجد والجامعات والمعاهد الدينية والمؤسسات الخيرية.
وتم تأسيس المجلس المركزي لإدارة الأوقاف الإسلامية عام 1964م، وهي هيئة قانونية تعمل في ظل حكومة الهند، تشرف على جميع الأوقاف في الدولة. وعمل المجلس على إدارة وتنظيم الأوقاف وتوثيقها وحمايتها من الاعتداءات.
ويرأس المجلس المركزي لإدارة الأوقاف الإسلامية وزير الاتحاد المسؤول عن الأوقاف، ويضم هذا المجلس عشرين عضوا معينين من قبل الحكومة. وقد وسعت أعمال المجلس في قانون معدل عام 2013م، حيث منح صلاحيات أوسع في توجيه مجالس الوقف في كل الولايات الـ28.
وسجّل تقرير لجنة القاضي “ساتشار” التي عينتها الحكومة عام 2004 لبحث أوضاع المسلمين، نحو نصف مليون عقد للأوقاف الإسلامية، بمساحة إجمالية تبلغ نحو ستمائة ألف فدان، وتبلغ قيمتها السوقية نحو عشرين مليار دولار.
ويقدّر الدخل السنوي الفعلي لهذه الأوقاف بنحو 27 مليون دولار، بينما يتجاوز العائد السنوي المتوقع منها هذا الرقم بأضعاف كثيرة قدرتها اللجنة بنحو ملياري دولار، وهو ما يثبت فشل موظفي مجلس الأوقاف في إدارتها بشكل صحيح.
تاج محل
ومن القضايا المثيرة التي طرحت أمام القضاء الهندي فيما يتعلق بالوقف هو الدعوى التي رفعها مجلس الأوقاف السنية في ولاية أوتارا براديش شمال الهند، والتي أثبت خلالها أن ضريح ممتاز محل المشهور بـ”تاج محل” هو من الأوقاف الإسلامية السنية في البلاد، لكن مجلس الأوقاف الشيعية في الولاية قدم دعوى مماثلة تثبت أن أوقاف منطقة أجرا -حيث يقام الضريح- تابعة للوقف الشيعي.
وبسبب النزاع السني الشيعي على المنطقة نقلت الحكومة ملكية الضريح الأشهر عالميا إلى مصلحة الآثار التابعة للحكومة، وهو ما حرم المسلمين من عوائد هذا الموقع التي تقدر بملايين الدولارات سنويا، إضافة إلى حرمانهم من القيمة المعنوية التي تمثلها هذه التحفة المعمارية الخالدة.
ومن القضايا المهمة التي تقف عائقا في حماية الأوقاف الإسلامية ما أظهرته دراسة حديثة أثبتت أن نحو 5% فقط من الشباب الهندي المسلم لديه معلومات عن معنى الوقف في الإسلام، وبالتحديد عن أوقاف المسلمين في البلاد وقيمتها وأماكن وجودها.
ووفقاً للدراسة فإن هذا الجهل يشكل عائقا كبيرا في الحفاظ على هذه الممتلكات الإسلامية في ظل غياب النزاهة والعدالة التي تحكم طبيعة العلاقة بين السلطة الحاكمة والأقلية المسلمة، كما أن جهل المسلمين بحقهم التاريخي في ملكية هذه الأوقاف يحرمهم من عوائدها التي توفر لهم فرصا لحياة أفضل، خصوصا مع التهميش الذي تعيشه مناطق المسلمين وحرمانهم من مقومات حياة كريمة.
عوائق بوجه الوقف
ويعتقد عبيد الله فهد المحاضر في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة أليجار الإسلامية أن من المشاكل الكبيرة التي تواجهها الأوقاف الإسلامية في الهند “غياب التقدير الحقيقي لقيمتها، حيث تؤجر بعض أراضي الأوقاف بمبالغ زهيدة تعود إلى مرحلة ما قبل الاستقلال”.
ويضيف “من المؤلم أن تجد أراضي في وسط العاصمة دلهي مؤجرة لمنشآت حكومية أو شركات استثمار خاصة بما يقرب من 10 سنتات للمتر الواحد، بينما قيمته الحقيقة تصل إلى ألف دولار”.
ويؤكد فهد أن “المسلمين يطمحون لتحويل الأوقاف إلى مؤسسة ضخمة يمكن أن تلعب دورا رئيسيا في رقي المسلمين ورفاههم، وأن تسهم في تقديم خدمات خيرية واجتماعية، وأن تسهم في تنمية واقع فقراء المسلمين في مجال التعليم والصحة”.
ولتحقيق ذلك يرى فهد أنه “لا بد من حصر دقيق للأوقاف وتخليصها من الهيمنة الحكومية، وتعيين إدارات قديرة تستطيع أن تنهض بالمؤسسة الوقفية من أجل تحقيق الأهداف المرجوة منها”.
المصدر: “الجزيرة نت”.