مما لا شك فيه أن كل جيل يعيش عصره، وما يفرزه من تطورات وإنتاجات تلبي احتياجاته وميولاته، والعصر الذي نعيشه يتميز بانفتاح شديد، إذ يحتضن كل جديد؛ بل ويحسن الترويج والتسويق لكل منتوج، وخاصة إذا ارتبط بتحقيق مداخيل مربحة، حينئذ تجتهد كل وسائل وآليات الإغراء وصولا لاستهلاك فئات لا حدود لها، إنه زمن العولمة وتعميم المنتوجات، وما يصاحب ذلك من أهداف وغايات، خلاصتها تتجلى في تكريس واقع هيمنة المتغلب، والإبقاء على حالة التبعية والتقليد عند المغلوب.
ولعل ظاهرة الإقبال على الإنترنت بمختلف وسائطه وشرائحه تعد مظهرا من مظاهر الانفتاح غير المنضبط والمتحكم فيه، وذلك أن الإحصائيات التي اعتمدتها عدة دراسات تؤكد ارتفاعا كبيرا لزوار الشبكة العنكبوتية؛ بل إن الدراسات أيضا تؤكد تزايد نسب الإدمان على الإنترنت ، وخاصة لدى فئة الشباب.
ولئن كان الشباب هم جيل المستقبل، والطاقات التي ينبغي أن تحظى بالرعاية والترشيد، فإن واقعنا يؤكد هذا الهروب وبأعداد مرتفعة لشبابنا نحو هذه الوسائل التكنولوجية، ولو بدون تحصين وتوجيه، وهو ما يقتضي منا رصدا وتحليلا لظاهرة الإقبال المتزايد للاستعمال السلبي للانترنيت، واقتراح بعض السُبل والمُوجهات للترشيد والتسديد.
عند بداية اكتشاف الشبكة العنكبوتية واستعمالاتها المتعددة عُدّ ذلك فتحا عظيما لا مثيل له، والحق أنه لا يمكن إنكار فوائد استعمال الإنترنت على عدة واجهات، إذ قربت لنا المعلومات، ويسرت لنا سُبل الوصول إليها، كما قرّبت لنا المسافات واستثمرت لنا الأوقات، وجعلتنا نتعرف على مختلف الشعوب والثقافات… كما سهّلت مجموعة من التعاملات والمبادلات، وحفظت لنا أعمالنا والذكريات، وغير ذلك كثير من المنافع والمميزات…
لكن الذي نعالجه في هذا التحليل هو الاستعمال غير الآمن للانترنيت، والذي يصبح وبالا على صاحبه، ومُدمّرا لقيمنا وعلاقاتنا المجتمعية، لذلك كان الاستعمال السيء للانترنيت عدة سلبيات تظهر في عدة تجليات، ومن ذلك:
– إضاعة الوقت وهدره بلا رقيب أو حسيب: حيث تجد الشباب يظل ساعات طوال مُبحرا في الشبكة العنكبوتية بلا حاجة أو هدف مفيد.
– الانعزال والهروب من الواقع: إذ تجد الإنسان يعيش قضايا واهتمامات قد لا تكون أقرب إلى واقعه المعيش، وفي أحيان كثيرة تسبب له همّا وضيقا شديدا، بالإضافة إلى ما ينتج عن ذلك من عزلة وتقوقع على الذات، وخاصة عند نسج علاقات افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث التعارف والدردشة بلا ضوابط، وما يترتب عن ذلك من توتر وقلق مستمر قد يصل إلى إدمان خطير يحتاج إلى علاج بلا شك.
– ضعف التركيز والفشل الدراسي: فمن المؤشرات السلبية أيضا للاستعمال المفرط للانترنيت فقدان التركيز الجيد ـ خاصة لدى المُتمدرسين ـ من حيث العطاء والتعلم الإيجابي، كما يحصل تراجع كبير في التزود من المعارف والمكتسبات الجديدة، إذ تصبح صعوبات في الفهم، وتضعف ذاكرة الحفظ والحافزية للإقبال على مزيد من الأنشطة التي تتطلب فهما وتركيزا، بالإضافة إلى ظهور علامات كل ذلك من خلال نتائج دراسية هزيلة تعكس مدى التأثير السلبي لاستعمال الإنترنت .
– تزايد الإنفاق المالي: كان الشاب يفرح ويبتهج إذا وفرت له أسرته وسائل التمدرس، وكل ما يدخل على قلبه سعادة وسرورا، لكن الآن لم يعد ذلك يتفاعل معه ويتقبله إلا لُماما، وسواء أكان طفلا أو شابا أصبح من المستلزمات الأساسية عنده توفير استعمال الإنترنت ؛ بل أصبح عند أغلب الأسر عبئا ثقيلا من حيث تزايد الانفاق عليه، إلى درجة اعتباره من الضروريات الأساسية التي لا يمكن التفريط فيها، إذ قد يُتسامح ويُتجاوز عن أمور تتعلق بالمدرسة أو الملبس أو الماكل..لصالح تأمين الإبحار في الشبكة العنكبوتية بلا منغصات الانقطاع.
– التفريط في الوظائف الاجتماعية والأسرية وغيرها: من المؤشرات السلبية للاستعمال غير الرشيد للأنترنيت، هو أن تجد الشباب لا يُنسج علاقات اجتماعية واقعية، مكتفيا بالعلاقات الافتراضية، مما ينتج عنه خجلا وضعفا في الشخصية، وهناك تجل واضح لهذا التفريط في الوظائف الاجتماعية وهو ضعف الصلة بين الأقارب وتعارفهما بما يقوي رابطة الدم بينهم؛ بل الصورة الأبشع أن تجد أفراد الأسرة الواحدة داخل البيت الواحد، كل واحد منهم له عالمه الخاص منعزلا عن أقرب الناس إليه، لا يتبادلون الاهتمامات والهموم، ولا يفتحون جسور التواصل الحقيقي المُفضي إلى تفريغ كل الطاقات والشحنات، بما يقوي العلاقات الأسرية ويجعلها في مأمن من الاختلالات والمُدمرات سواء كانت داخلية أو خارجية.
ولا شك بأن الاستعمال السلبي للإنترنت يُشكل عنصرا مدمرا لحياة الإنسان وقيمه؛ بل يُسهم في تهديد تماسك المجتمعات وتفاعلاتها الإيجابية، لذلك كان الأولى معرفة السلبيات الناتجة عن الاستعمال غير المفيد حتى يمكننا استخدامه فيما ينفع، ومن الأمور التي تعيننا على ترشيد استعمال الإنترنت ، نذكر ما يلي:
- وضع أهداف للإبحار في الشبكة العنكبوتية: وذلك أن هذه الوسيلة إنما كان سبب وجودها لتحقيق أهداف ومقاصد شتى، فكان الأجدر بطالبها عند كل وقت وحين يسائل نفسه ما الذي يريده منها، والذي يُساعده على ذلك ألا يترك نفسه للضياع وتمضية الوقت بلا هدف أكيد، ومن هنا يمكن أن يكون للإبحار في الإنترنت جدوى ومعنى، بأن يكون إما تثقيفا أو بحثا عن معلومات ومعارف، أو اطلاعا على كل جديد مفيد وما إلى ذلك، أما الولوج إلى الشبكة بلا غاية يُعد مجرد استهلاك لا قيمة إيجابية تتحقق لصاحبه.
- · ضبط وقت الاستعمال: إن أوقاتنا محسوبة ومعدودة، وكل وقت يمضيه صاحبه فهو محسوب له ولا يمكن أن يعوضه، والمقبل على استعمال الإنترنت قلما ينتبه إلى قيمة الوقت، فتجده يجلس لساعات طوال أمام الحاسوب بلا فائدة تذكر، من موقع إلى آخر، ومن هنا إلى هناك؛ فإذا حاسب نفسه وجد أن جزءا غير يسير من عمره يمضيه في هذا الاستعمال السيء للانترنيت، لذلك كان ضبط الوقت ومعرفة قيمته أمرا مهما لإبحار آمن ورشيد في الشبكة العنكبوتية.
- عدم الاعتماد على الإنترنت كمصدر وحيد للمعارف والمعلومات: رغم القيمة المضافة للشبكة العنكبوتية، من ناحية تيسير سهولة الوصول إلى المعارف، لكن لا يمكن أبدا أن تُعتمد كمصدر وحيد لها، هذا بالإضافة إلى ضرورة فرز المواقع التي تتسم بالمصداقية والوثوقية من غيرها، ثم يأتي دور المقارنة والبحث والتنقيب في مصادر المعرفة الأخرى، كالكتب والمجلات والدراسات الميدانية مما لا يتوفر في الإنترنت ، وخاصة عند إعداد البحوث أو الدراسات التي تحتاج الاستناد والارتكاز إلى الجديد والجهد الشخصي.
- · الابتعاد عن المواقع المشبوهة وغير الآمنة: بعض المواقع تستعمل الحيل والخداع لكسب زوار كثر، فتجدها تُغري زوارها بالعناوين والمنشورات المزيفة، وبعضها يشكل خطرا، إما من ناحية المضمون المعرفي الذي يتعارض مع قيم وعقيدة المسلمين، أو حتى من ناحية نوع الخطاب المبتذل، والذي يؤثر سلبا على طريقة التواصل والتخاطب، ومن هنا فإن الزائر الحصيف لا يترك نفسه عرضة لكل المنتوجات تتحكم فيه وتغريه للإقبال عليها بلا حصانة ومناعة؛ بل يكون هو سيد نفسه، يختار ما يشاء بإرادته ومعرفته بقيمة المنتوج المعروض عليه في الشبكة العنكبوتية.
- وحاصل القول أن استعمالات الإنترنت متنوعة ومتعددة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعيش إنسان ما منعزلا بالكلية عن هذه المنتوجات التكنولوجية، إذ هي تعبير عن مستوى التطور الذي وصل إليه الإبداع البشري، وبفضل الشبكة العنكبوتية تيسرت مجموعة من الأعمال التي كانت تستغرق وقتا أكبر، وتكلفة مادية أكثر، ولكن رغم إيجابياته الكثيرة، لابد أيضا من التنبيه على سلبياته، وخاصة لدى الشباب، وذلك كله من أجل استعمال مُرشد للانترنيت، يكون نافعا ومفيدا لصاحبه لا مُعرضا له لأخطار تهدد بناء شخصيته وقيمه وعلاقاته المجتمعية.
——
* المصدر: نوافذ.