سارت تعاليم الإسلام إلى جزءٍ كبير من العالم المعروف خلال القرنين السابع والثامن للميلاد (الأول والثاني من الهجرة)، واستطاعت قيم الإسلام وجهود الأسلاف أن تؤسس – في أقل من قرن من الزمان – أكبر وأقوى دولةٍ عرَفَتْها القرون الوسطى[1].
دخل المسلمون شاطئ الفرات عام (633م – 12 هـ)، وانتصروا على الروم عام (634م – 13هـ)، ودخلوا دمشق عام 634م – 13ه، وحقَّقوا نصر اليرموك الرائع عام (636م – 15هـ)، وانتصروا على الفرس في القادسية عام (637م – 16هـ)، وخضعت لهم سوريا عام (638م – 17هـ)، وجميع فارس عام (642م – 22هـ)، ومصر عام (639 – 642م/ 18 – 22هـ)، وأذربيجان عام (642م – 22هـ)، وأفغانستان عام (661م – 41هـ)، وتونس عام (674 – 55هـ)، وبخارَى عام (674م 55هـ)، والسند عام (708م – 90هـ)، ومراكش عام (708م – 90هـ)، وإسبانيا عام (711 – 712م/ 93 – 94هـ)، وسمرقند عام (712م – 94)، وفتحوا خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين معظمَ جُزر البحر المتوسط، وأصبحوا سادة الدنيا بلا منازع[2].
وقد امتدَّت بقعة الإسلام من الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا.
وكما نرى فإنه من خلال هذه الحركة العالَمية الإسلامية التي لم يشهد العالم مثلَها – في هذا الوقت الوجيز – وصل الإسلام إلى العالم القديم كلِّه تقريبًا، ومعروف أن الإسلام ليس دينًا وحسب، بل هو دين تدخُلُ الحضارة الإنسانية في نسيجِ تعاليمه، ويفتح للناس ميادين المعرفة والعقل على امتداد الكون والنفس والحياة.
ولم يكُ ممكنًا أن يقف المسلمون عند حدود الفتوحات الجغرافية، بل كان لا بد للعرب والمسلمين أن يستوعبوا خلاصة الحضارات الأخرى التي سبقَتْهم، وأن يعرضوها على دينهم وطبيعتهم الحضارية، وإلا كانت مجرد فتوحات دنيا لا فتوحات دين، وبالتالي يقررون كيف يمكن أن يأخذوا من هذه الحضارات ما يتلاءم مع حضارتهم، ويرفضوا ما سوى ذلك؛ ولهذا عمدوا إلى تجنيد جيوش من المترجمين؛ لينقلوا إليها العلوم والنظم والأفكار السابقة، في ظل مناخهم الإسلامي وأنساق حياته، وبالتالي ينقلونها دون تأثر بمناخها وطبيعة حياتها وسلبياتها.
وبما أن أبرز لغات الحضارة القديمة كانت اليونانية والفارسية والسريانية والهندية، فقد ركزوا على هذه اللغات.
وقد كانت السريانية – في الغالب – مجرد لغة وسيطة بين العربية واللغات الثلاث الأخرى؛ لتيسير نقل علومها ومعارفها الحضارية.
وعهد إلى المترجمين في القرنين الثاني والثالث للهجرة (العصر العباسي)، بنقل أهم المؤلَّفات اليونانية إلى العربية، والتوفيق بينها وبين متطلبات الحضارة الفكرية الإسلامية؛ كالطب والفلك والجغرافيا والكيمياء والفيزياء[3].
وقد أصبح كتاب (القانون في الطب) لابن سينا عمدةَ الطب، وأساسًا لتقسيمه في الغرب، وقد بقي طوال خمسمائة سنة النصَّ المعتمد عليه في كليات الطب الأوروبية.
أما في الرياضيات: فأوروبا مَدِينةٌ لأشهر أعلامه من المسلمين، وهو الخوارزمي، مبتكر علم الجبر، وناشر الأرقام الهندسية التي تدعى في الغرب بالأرقام العربية حتى اليوم.
أمَّا في علم الطبيعيات: فقد دُرِّس كتاب العلامة ابن الهيثم المُعَنْون (كتاب المناظر)، في مدارس أوروبا حتى القرن السابع عشر، وكذلك في علمي الكيمياء والفيزياء ومعهما الفلك.
إن أهم ما أدركَتْه العصور الوسطى في العلوم الطبيعية هي: مبادئ البحث التجريبي، فبَيْنَ الطرق العديدة التي اتبعَتْها هذه العلوم؛ كالمراقبة والقياس والعد والاستقراء والاستدلال والتجرِبة، احتلَّت التجرِبة مكانًا رفيعًا[4]، وكان المسلمون السبَّاقين؛ إذ وضعوا أسسها قرب نهاية القرن الخامس الهجري[5].
وقد تكاثر الكيماويون العرب بشكل واضح، حتى إن المتطبِّب عبداللطيف البغدادي يذكر أن معاصريه من الكيميائين كانوا يعرفون ثلاثمائة حالة للتمويه.
يقول درابر “Draper”
“إن المسلمين هم الذين أنشؤوا في العلوم العملية – علم الكيمياء – وكشفوا بعض أجزائها المهمة، ومِن اختراعاتهم (ماء الفضة) حامض النتريك، وزيت الزاج (حامض الكبريتيك)، وماء الذهب (حامض النيتروهيدروكلوريك)، وحجر جهنم (نترات الفضة)، والسليماني (كلوريد الزئبق)، والراسب الأحمر (أوكسيد الزئبق)، ومِلح البارود (كربونات البوتاسيوم)، والزاج الأخضر (كبريتات الحديد).
وهم الذين اكتشفوا الكحول، والبوتاس، وروح النشادر، والزرنيخ، والإثمد، والقلويات، وهم الذين استَخدَموا ذلك العلم في المعالجات الطبية وصنع العقاقير، فكانوا أوَّلَ مَن نشر تركيب الأدوية والمستحضرات المعدِنية وتنقية المعادن، وغير ذلك من المركَّبات والمكتشفات التي تقوم عليها معظم المصنوعات الحديثة”[6].
وكان من أبرز عباقرة المسلمين في الكيمياء الأمير خالد بن يزيد (الأموي)، المتوفَّى سنة 90ه، والإمام جعفر الصادق، والرازي أبو بكر محمد بن زكريا، وجابر بن حيان (الكوفي)، وأبو المنصور الموفق بن علي، المتوفى في القرن الرابع الهجري، والمجريطي مسلمة بن أحمد، والطغرائي أبو إسماعيل مؤيد الأصبهاني، والعراقي السماوي محمد بن أحمد، والجلدكي علي بن أحمد عز الدين، المتوفى في القرن الثامن الهجري[7].
والمطَّلع على كتاب ابن أبي أصيبعة (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) يعجب من كثرة أسماء مترجمين وأطباء لم يسمع بهم من قبلُ.
وهناك مجموعةٌ مِن النقلة نستطيع أن نتعرَّف عليهم من قائمة ابن أبي أُصَيْبعة، وردَتْ في الباب التاسع من طبقاته، بعنوان (طبقات الأطباء النقلة)؛ الذين نقلوا كتب الطب وغيرها من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي.
والقائمة تبدأ من أيام الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور، الذي تولى الخلافة عام (136هـ – 753م)، الذي يعدُّ عهده بداية النقل المنهجي لعلوم اليونان والسريان والفرس والهنود[8]، ولهذه القائمة دلالتها على الأهمية التي احتلَّها هؤلاء الناقلون المؤرَّخ لهم.
أهمية حركة الترجمة:
والحق أن حركة الترجمة كانت بداية حركةٍ علمية نشطة، فقد حفَّزت المسلمين إلى الإفادة مما اطَّلعوا عليه من كتب التشريحِ العديدة، مما تُرجم لأبقراط وجالينيوس وغيرهما؛ لأن الدين الإسلامي لا يبيح المثلة بالإنسان حيًّا أو ميتًا؛ فكانت هذه المترجمات خير ما وضح لهم مبهمات هذا الموضوع، كما أخذت مصنفاتهم الطبية تعكس جوانب عديدة من الطب اليوناني[9].
كما أن الترجمةَ قد دفعت إلى ظهور حركة تأليف في بعض المعارف؛ فقد بدأ المترجِمون يضعون الرسائل والكتب ليستعملها الطلاب على شكل ملخَّصات في شتى أنواع العلوم، وبخاصة الطبية منها، ثم ما لبثت هذه الحركة أن توسَّعت بين العلماء العرب الذين أخذوا يكتبون على أسس متينة من المعرفة، فقد ظهرت في الطب والفقه والتاريخ واللغة مثلًا كتب كثيرة، وبعضها بعدة أجزاء؛ بحيث كان بعضها أشبه بالموسوعات، كما كان المؤلف الواحد يصنف عشرات الكتب في مختلف المواضيع مدللًا على سَعة معرفته بمختلف العلوم[10].
وكما يتبيَّن لنا؛ فإن المسلمين لم يتعامَلوا مع هذه المترجَمات بطريقة حَرْفية جامدة، بل سرعان ما قاموا بتفعيلها في إطار نظامِهم الثقافي والتعليمي، يقول أحمد علي الملا في كتابه (أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوروبية):
“إذا كان المسلمون قد نقلوا وترجَموا كثيرًا من التراث العلمي للأمم الأخرى؛ كاليونان والفرس، فإنهم لم يلبثوا أن اعتَمَدوا على أنفسهم وعلى المناهج العلمية التي ابتكروها؛ فافتَتَحوا المدارس والمعاهد والجامعات، وألَّفوا الكتب والمراجع والأبحاث، وأقاموا المراصد والمشافي والمختبرات، يدفعهم إلى ذلك نشاط وثَّاب، وهمَّة عالية لَفَتَت الأنظار إليهم، وانتزعت الإعجاب بهم، حتى لهج أعداؤهم بالاعتراف لهم بالفضل والسبق”.
ولم يلبث المسلمون أن انطلقوا إلى عالم الإبداع في كل الفنون والعلوم، ونجحوا في إقامة حضارة أصبحت الحضارة الأعظم خلال عشرة قرون، وإلى هذه النقلة الحضارية يشير ياسين خليل في كتابه (التراث العلمي العربي)، فيقول: (إن مكانة التراث العلمي العربي تتعيَّن باتجاهين[11]:
الأول: بما حقَّقه العرب مِن تراجم ونقل من لغات أمم أخرى إلى اللغة العربية، فحفِظوا بذلك تراثًا ضخمًا من العلم؛ إذ لولا ذلك لضاعت معارف كثيرة، ولبَدَأ الإنسان من جديد في طلب المعرفة والعلم، ولتأخَّر رَكْب الحضارة الإنسانية عدة قرون.
الثاني: بما أضافه العرب وابتكروه من وسائل ومعارف وعلوم جديدة لم تكن معروفة من قبل، وما قاموا بتطويره في الاتجاه العلمي الصحيح، فأنجزوا بذلك الشيء الكثيرَ في جميع حقولِ المعرفة الإنسانية والرياضية والطبيعية والهندسية والتكنولوجية وغيرها؛ مما كان له أبلغ الأثر في النهضة الأوروبية، وبالتالي ترجمت مؤلَّفات العلماء العرب إلى اللغة اللاتينية، وتعرَّف عليها المفكِّرون والعلماء، فأفادوا منها في تطوير العلم والانتقال به إلى مرحلة تطويرية جديدة.
وكان لهذا النشاط الإسلامي الإبداعي الدؤوب – الذي امتصَّ خلاصة الحضارات السابقة – أثرُه في بروز العصر الذَّهبي للحضارة الإسلامية في الفترة بين سنة 82 وسنة 699 هجرية (700 – 1300 ميلادية)، ولهذا سُمِّيت هذه القرون الستة بعصر النهضة الإسلامية، وكانت هذه النهضة أساس النهضة الأوروبية في العلم، التي بدأت حوالي عام 803 هجرية (الموافق 1400 ميلادية).
وتؤكِّد ذلك المستشرقة سيجريد هونكه في كتابها (شمس الله تسطع على الغرب)؛ حيث تقول: “ولعل أكبر دليل على هذا هو أن الغرب بقي في تأخر ثقافيًّا واقتصاديًّا طوال الفترة التي عُزل فيها عن الإسلام ولم يواجِهه، ولم يبدأ ازدهار الغرب ونهضته إلا حين بدأ احتكاكه بالعرب سياسيًّا وعلميًّا.
واستيقظ الفكر الأوروبي من سُباته – الذي دام قرونًا – على قدوم العلوم والآداب والفنون العربية؛ ليصبح أكثر غنى وجمالًا، وأوفر صحةً وسعادةً[12].
وهكذا أصبح المسلمون قادة الحضارة الحقيقيين، المستوعبين لحضارات الماضي، والقادرين على نقدها، ومعالجة سلبياتها، وتقديم خلاصتها الإيجابية للعالم، وفي الوقت نفسه أصبحوا المبدعين في كل العلوم، تَتَتَلْمذُ أوروبا وغيرها عليهم، وتجلس تحت أقدامهم.
————
[1] يراجع موضوع حركة الترجمة والنقل: عباس محمود العقاد: مرجع سابق، ص (28 – 32).
[2] عبدالفتاح غنيمة: ميادين الحضارة العربية والإسلامية، (ج 4 ص 2).
[3] توفيق الطويل: مرجع سابق، ص (246) وما بعدها.
[4] السعيد الورقي: مرجع سابق، ص (379).
[5] رحاب خضر عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام في الفيزياء والكيمياء والرياضيات، (4/ 5، 6)، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1994م.
[6] المرجع السابق ص ((7، 8، 11).
[7] المكان السابق.
[8] أحمد فريد رفاعي: عصر المأمون، الفصل العاشر، ص (417) وما بعدها، وأيضًا ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، الباب التاسع نقلًا عن عبدالفتاح غنيمة، (4/ 19 – 21).
[9] عباس محمود العقاد: مرج ع سابق، ص (28 – 30).
[10] أحمد عبدالباقي: معالم الحضارة العربية، ص (386، 387)، نقلًا عنه.
[11] انظر: غنيمة (4/ 21) وما بعدها نقلًا عنه.
[12] علي عبدالله الدفاع: لمحات من تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، مكتبة الخانجي مصر، ص (117 – 121
—–
* المصدر: الألوكة.