بعد ثورة يناير اتخذ الإخوان المسلمون من ميدان رابعة العدوية مرتكزًا لهم أكثر من مرة، وتردد أن سبب ذلك قرب رابعة من القصر الجمهوري (مقارنة بميدان التحرير)، بمعنى أنهم يحتشدون في مكانٍ قريبٍ من صانع القرار يضغطون عليه –كما في حالة المجلس العسكري- أو يدعمونه-كما في حالة الدكتور مرسي-. وفي هذا السياق بدأت الدعوة للتجمع في ميدان رابعة قبل الانقلاب بأسبوعٍ تقريبًا. وكنت خارج مصر لسنوات طوال قبل ثورة يناير2011 وعدت بعدها، وحين خالطت الإسلاميين امتلأت يقينًا بأنهم يتحركون لبلاء لا لتمكين؛ واتجهت لدراسة السياسة أملًا في أن أفهم وأنصح نفسي وغيري بعلم؛ وجاءت رابعة وأنا أُجمع المادة العلمية لرسالة الماجستير!
كنت في الميدان قبل الإنقلاب (حضرت الجمعة التي تجمعوا فيها وانصرفوا،ثم الجمعة التي تجمعوا فيها وبقوا إلى أن حدث الانقلاب يوم الاربعاء3 يوليو2013)، وكنت فيه ليلة الانقلاب، وكنت فيه بعدها. ولم أكن أجلس. كنت أتحرك بين الجموع أرى بعيني وأسجل ما أراه من ملاحظات، ونثرت ذلك في رسالة الماجستير، وهي مطبوعة. حين أعلن العسكر انقلابهم، قلت: الآن تتحرك الجموع إلى القصر الجمهوري نصرةً للرئيس. ولكن حدث شيء آخر!
أطبق عدد قليل من العسكر (كانوا من الحرس الجمهوري) على المعتصمين في رابعة، جاءوا من الجهة الشمالية إلى محاذاة طيبة مول، ولم تكن قد دخلت في الاعتصام وقتها، وشغلوا المعتصمين بالميدان عن التحرك لنصرة الرئيس، ومع الصباح تراجع العسكر إلى بداية شارع عباس العقاد ثم انسحبوا بعد ذلك، وبعد رحيل العسكر لم يتحرك الذين في الميدان.. ظلوا مكانهم يهتفون!
وقتها لم يكن في الميدان سوى الإخوان وعدد قليل من عوام الناس، تحديدًا من الصعيد (جنوب مصر، ووجود الصعايدة بجوار الإخوان مما لم أجد له مبررًا إلى اليوم ولم أجد من التفت إليه وحاول تفسيره)، وبدأ الناس يتجمعون وتضاعف عدد المعتصمين، وبدأ التحرك من الميدان، وبالفعل تحركوا إلى دار الحرس الجمهوري، وكنت يومها بين الحضور، كانت الأعداد كثيفة جدًا، وكان العسكر قلة، وكانت الحماسة مرتفعة، وقلت: سيدخلون دار الحرس الجمهوري ويحررون الرئيس (كانت تتردد إشاعة قوية بأن الرئيس بداخل دار الحرس الجمهوري)، ولم يفعلوا. انفض المشهد الملتهب فجأة بعد خطابٍ من أحد (صقور) الإخوان فك الله أسره!!
حين انتهى هذا (الرمز الصقر) من كلمته قلت: لن يجدوا فرصة كهذه، وأن العد التنازلي قد بدأ، وأخذت بعضي واتجهت لرابعة أكمل تسجيل الملاحظات على الصحوة الإسلامية، فقد كانت رابعة فرصة ذهبية لرؤية أكبر عدد ممكن من المنتسبين للصحوة الإسلامية يتحدثون بشكل طبعي. بل في أزمة، كانت غنيمة شهية لمن يريد أن يعرف ويفهم أفراد الصحوة عن قرب؛ وبذلت جهدًا ووقتًا للسماع والحديث. ووقتها استيقنت من أن الإخوان لن يحسموا.
ثم جاءت مذبحة الحرس ومذبحة المنصة والرمي على السائرين في المسيرات من أقسام الشرطة، والهجوم على المعتصمين في النهضة، وكثر القتل في المعتصمين، واحتشد الناس بالملايين في رابعة والنهضة وفي المسيرات المليونية في المدن الكبرى وأحياء القاهرة المكتظة بالسكان (كالعمرانية والهرم)، حتى كانت الشوارع تموج بالبشر موجًا، وظهر أمران متناقضان: حدة في الخطاب، وتراجع واضح في الفعل على الأرض.
ظهر بوضوح أن قادة الموقف يومها ينتظرون الحسم من الخارج؛ كأنهم يعتقدون أن الخارج هو الذي يفصل في الخصومة وأنه يميل لمن هم أكثر عددًا.. يظنون أن الخارج مع الأغلبية حسب مبادئ الديمقراطية.. يظنون أنه مؤمن بكفره. وظني أن ثمة من يتواصل معهم في الخفاء ويقنعهم بعدم الحسم وأن الأمور ستكون على ما يرام، ظني أن ثمة من هدهدهم وأضعف عزمهم إلى أن نقضي الأمر وُفرض عليهم واقعٌ جديد؛ ومن شواهد ذلك ظهور اليافتات المكتوبة بالإنجليزية والأحاديث باللغة الإنجليزية على المنصة، بل وفي داخل الميدان في المناطق البعيدة عن الكاميرات، علمًا بأن تردد الصحفيين الأجانب كان مؤقتًا.. جاءوا بشكل كثيف في يومٍ أو يومين مع بداية الاعتصام ثم رحلوا. كأن قد جاءوا في سيارة واحدة!
ومما يدعم فكرة أن القيادات الإسلامية وقفت مكانها تنتظر حلًا من الخارج وأن غايتهم انحسرت في إظهار كثرة عددهم ليميل الخارج إليهم أن الاعتصام تحول لما يشبه السكن الدائم (مساكن اللاجئين)، وعرف أهل الخيام بعضهم، وظهرت أنشطة اجتماعية مختلفة في الاعتصام غلب عليها البعد الدعوي وخاصة من السلفيين الذين ملؤوا الميدان نصرة للإخوان، وأصبحت المسيرات روتينية، وبدأ الحديث عن إنشاء مدارس في رابعة، ما يعني أن الاعتصام مستمر للأبد!
في ذات الوقت كان الفريق الآخر يطور واقعًا، بكل ما يستطيع من أدوات: الإعلام والأمن، والخطاب الديني الموافق له، وبناء السجون والمعتقلات، والتجريب العملي (مذبحة الحرس والمنصة والاشتباك مع المتظاهرين في المحافظات). أصبح المشهد بين فريقين: فريق كل أدواته الرفض وإظهار كثرة العدد ويفتقد أي رؤية لتطوير الواقع بل يشعر أنه في ورطة؛ وفريق يمتلك رؤية شديدة الوضوح تستهدف فرض واقعٍ جديد خلي من الحركات الإسلامية كفاعلٍ، وبيده أدوات كثيرة يستخدمها ويطورها ويضيف إليها. كان لا بد من الفض إنقاذًا للإسلاميين قبل غيرهم، فلم يكن لديهم حل ولا تطوير للمشهد كأن قد أقسموا على أن لا يتحركوا من تلقاء أنفسهم.
تضخم سؤال لم يفارقني: ماذا يريد الإسلاميون في مصر؟ الهدف المجمل حاضر بقوة، وهو تحكيم شرع الله، أو: استئناف الحياة الإسلامية من جديد. وحين تسأل عن التفاصيل لا تجد. بضاعتنا في مصر – وغير مصر في الغالب- هي الرفض.. هي الممانعة، ولا نملك حلًا ولا أدواتٍ لفرض حل في حال وجوده، ولذا ننتظر الحسم من خارجنا، وكشفتنا رابعة وأخواتها، ولكننا لم نعِ الدرس بشكلٍ جيد، والسبب: أننا نفسر كل ما يقع علينا بأنه ابتلاء يرفع الله به درجاتنا؟، علمًا بأن طرحَ السؤالِ الذي يبحث عن سبب الفشل هو أول ما فعله الصحابة يوم أحد، فقبل أن ينصرفوا من المعركة تساءلوا عن سبب الهزيمة: (أنى هذا؟)، ونحن لا نفعل مثلهم..لا نطرح أسئلة على التجارب المتعثرة، بل نمضي قدمًا!
فمع مرارة رابعة وألمها وما أعقبها من مطاردة واعتقال وإهانة لنا ولأهلنا إلا أنها أنقذت الإسلاميين من ورطة قيادة المشهد، وأجلستهم حيث يحبون.. أو حيث يحسنون: في السجون.. يشتكون الظلم والظالمين، ويتنادون بأن البلاء سنة الله في المرسلين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهو حق يسترون به باطل.
—-
*باحث في العلوم السياسية، والمقال نقلا عن مدونات الجزيرة.